في خطوة تُعد الأولى من نوعها منذ تولّي الرئيس السوري أحمد الشرع مهامه، يصل غدا الأربعاء إلى العاصمة الفرنسية باريس، في زيارة رسمية تستغرق يومين، يلتقي خلالها نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون.
هذه الزيارة التي تأتي بناءً على دعوة رسمية قدّمها ماكرون في شباط/فبراير الماضي، تمثل تحولاً مهماً في المشهد الدبلوماسي الإقليمي والدولي، وتُعتبر مؤشرًا على بدء مرحلة جديدة من الانفتاح بين سوريا وبعض دول الاتحاد الأوروبي.
ونقلت وكالة سانا عن مصدر في وزارة الإعلام قوله: “تتناول ملفات أمنية وإقليمية، أبرزها الاعتداءات الإسرائيلية والعلاقات مع لبنان، في أول زيارة رسمية له إلى دولة أوروبية بعد سقوط النظام السابق، بما يعكس مسارًا متطورًا في العلاقات بين البلدين”.
زيارة رمزية واستراتيجية
ووصفت المصادر الرسمية في الرئاسة الفرنسية اللقاء بأنه “يندرج في إطار التزام فرنسا التاريخي تجاه الشعب السوري، الذي يتطلع إلى السلام والديمقراطية”، مشيرة إلى أن الرئيس ماكرون سيؤكد خلال المباحثات على ضرورة “بناء سوريا جديدة، حرة ومستقرة وذات سيادة، تحترم كل مكونات المجتمع السوري”.
وقال الدكتور طلال مصطفى، الباحث ورئيس قسم التقارير في مركز حرمون للدراسات في حديث لمنصة سوريا ٢٤: “تمثّل زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى فرنسا خطوة رمزية واستراتيجية في آنٍ واحد، لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع لتغير موازين القوى في المنطقة، ولا سيما بعد تراجع النفوذ الأمريكي وبروز محور جديد من التفاهمات الإقليمية والدولية حول مستقبل سوريا”.
وأضاف: “هذه الزيارة تعكس رغبة دمشق في كسر العزلة الدبلوماسية التي فُرضت عليها منذ أكثر من عقد، وتعيد وضع سوريا على الخريطة السياسية الأوروبية، خصوصًا مع دولة مثل فرنسا التي تمتلك وزناً سياسياً واقتصادياً في الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن الدولي”.
ومنذ سقوط نظام الأسد السابق، تؤكد الحكومة السورية بإدارة الرئيس الشرع على أنها تسعى إلى تطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
وتابع: “الزيارة تأتي أيضًا في سياق إقليمي معقّد، حيث تتقاطع الأزمات في الشرق الأوسط مع تحوّلات في مواقف بعض العواصم الغربية تجاه الملف السوري، ما يجعل من هذا الانفتاح خطوة مدروسة تهدف إلى إعادة ترتيب العلاقات الخارجية لسوريا الجديدة مع أوروبا، وخاصة مع فرنسا، كما أنها تعبير عن اعتراف غير مباشر بأن المرحلة المقبلة تتطلب شراكات متعددة الأبعاد، وليس فقط داخل المحور الإقليمي التقليدي”.
وتمثل زيارة الرئيس الشرع إلى فرنسا حدثًا سياسيًا بارزًا، قد يفتح صفحة جديدة في العلاقات بين سوريا والغرب، ويُعد مؤشرًا على تغير في موازين القوى والسياسات في الملف السوري.
وأكد مصطفى أن “الزيارة ليست مجرد حدث بروتوكولي، بل هي انعكاس لتحول عميق في المعادلة الدولية، حيث أصبح واضحاً أن استمرار العزلة عن سوريا لم يعد مجديًا، وأن هناك حاجة ملحّة لدخول مرحلة الحوار المباشر، حتى لو كان تحت شروط ومعايير مختلفة. فسوريا الجديدة، سواء أكان النظام فيها قد تغيّر أم لا، تحتاج إلى شراكات متعددة الأطراف لإعادة بناء الدولة، والمجتمع، والاقتصاد”.
ملفات سياسية واقتصادية على الطاولة
ومن المتوقع أن تتركز المباحثات بين الزعيمين على عدد من القضايا الأساسية، منها الاستقرار السياسي والأمني في سوريا ولبنان، ومكافحة الإرهاب، ومسألة اللاجئين، بالإضافة إلى ملف رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، وهو أحد أهم المطالب السورية في هذه المرحلة.
وأوضح صحفي فراس علاوي في حديث لمنصة سوريا ٢٤: “تأتي أهمية هذه الزيارة أولاً لأنها أول زيارة يقوم بها الرئيس أحمد الشرع إلى دولة غير إقليمية، كما أنها الأولى لدولة في الاتحاد الأوروبي، ومن ناحية أخرى، تكمن الأهمية في مكانة فرنسا كدولة عضو دائمة في مجلس الأمن الدولي، ولقربها من الملف السوري، وأعتقد أن الهدف الرئيسي من الزيارة هو دعم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة”.
وتابع علاوي: “الرئيس سيناقش ملفات تتعلق بقضايا مثل قسد ولبنان ورفع العقوبات، إذ أن فرنسا ترغب أيضًا في أن يكون لها دور اقتصادي في عملية إعادة إعمار سوريا، بالإضافة إلى دور سياسي في ملء الفراغ الذي قد ينشأ نتيجة الانسحاب الأمريكي، كما تسعى فرنسا لأن تكون لها يد في هندسة العلاقات الإقليمية والدولية في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد”.
باريس تبحث عن دور استراتيجي
وعلى الصعيد الفرنسي، فإن استقبال ماكرون للرئيس الشرع يعكس رغبة باريس في لعب دور أكثر فعالية في صياغة الحلول الإقليمية، بما يضمن استقرار البحر المتوسط، وضبط موجات الهجرة، وتعزيز مصالحها السياسية والاقتصادية في منطقة المشرق العربي.
وتُعد فرنسا من الدول الأوروبية التي أبدت في الآونة الأخيرة مرونة أكبر تجاه إعادة التواصل مع دمشق، خصوصًا في ظل التغيرات الجيوسياسية التي شهدها الملف السوري في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك تراجع النفوذ الأمريكي وبروز محاولات إقليمية لإيجاد حل سياسي شامل.
زيارة فاتحة لانفتاح أوسع
وقد تكون هذه الزيارة بمثابة بداية لسلسلة لقاءات وزيارات متبادلة بين سوريا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، باعتبار أن العديد من العواصم الأوروبية تبحث عن وجود لها في سوريا في مرحلة ما بعد الحرب، سواء من خلال الاستثمار في مجال إعادة الإعمار أو عبر المشاركة في دعم الاستقرار السياسي.
وفي حال تواصلت هذه الجهود على نفس المنوال، فقد تكون الزيارة نقطة بداية نحو تسوية أوسع تتضمن إعادة ترتيب العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين سوريا وأوروبا.