كليات الحسكة: شبكة علنية من الرشاوى تحت غطاء مكاتب الخدمات الجامعية

Facebook
WhatsApp
Telegram

خاص - SY24

في محافظة الحسكة، حيث تتواجد كليات تابعة لجامعة الفرات – ومقرها الرسمي في دير الزور – يظهر واقع جامعي هش تتفشى فيه الرشاوى والمحسوبيات بشكل علني وممنهج. هذه الكليات، الواقعة في مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة السورية الجديدة، أصبحت بيئة خصبة لشبكات فساد منظمة، ترتبط بشكل مباشر بما يُعرف بمكتبات أو مكاتب الخدمات الجامعية، المتواجدة في مدينة الحسكة وتنتشر فروعها في مدينة القامشلي.

وكانت الكليات قد توقفت عن الدوام لفترة قصيرة عقب سقوط نظام الأسد، لكنها عادت للعمل مجدداً دون أن ترافق عودتها أي إجراءات إصلاحية حقيقية، ما سمح باستمرار – بل وتفاقم – مظاهر الفساد السابقة.

ورغم أن الدور المُعلن لهذه المكاتب هو تصوير ونسخ المحاضرات وبيع المستلزمات الجامعية، فإن جزءاً كبيراً من عملها يرتبط بتسهيل المعاملات الجامعية للطلاب، خصوصاً المغتربين منهم أو أولئك غير القادرين على القدوم شخصياً إلى الحسكة. وأمام كل كلية تقريباً تجد مكتباً أو أكثر يعرض خدمات استخراج الأوراق الجامعية الرسمية مثل شهادات التخرج، كشف العلامات، الحياة الجامعية، وتصديق الوثائق، ولكن بأسعار مرتفعة وتحت مبررات واضحة وصريحة: دفع “إكراميات” للموظفين لتسيير المعاملات.

مكاتب الخدمات… واجهة شبه رسمية للرشاوى الجامعية

أحد أصحاب هذه المكاتب في مدينة القامشلي تحدث لمنصة “سوريا 24” بكل وضوح قائلاً إن “الأجور المدفوعة للموظفين داخل الكليات هي ما يُجبرنا على أخذ مبالغ عالية من الطلاب”. يشرح قائلاً: “تسجيل طالب من خارج المنطقة وبدون وكالة نأخذ عليه 150 دولاراً، أما إذا كان لديه وكالة فالمبلغ ينخفض إلى ما بين 50 و60 دولاراً”. ويتابع: “كشف العلامات مع حياة جامعية يتراوح بين 20 و30 دولاراً، أما شهادات التخرج ومصدقاتها والكرتونية فقد تصل إلى 150 دولاراً وأكثر”.

وبحسب صاحب المكتب، فإنهم لا يحتفظون بأكثر من ربع المبلغ المدفوع، بينما يُسلَّم باقي المبلغ لموظفين في شؤون الطلاب وأعضاء في الهيئة التدريسية، على شكل “هدايا” أو “تسهيلات” لضمان الإسراع في إنجاز المعاملات، والتي قد تستغرق شهوراً في حال لم تُدفع هذه المبالغ.

هذا التصريح يكشف عن شبكة متكاملة من الفساد، يعمل فيها أصحاب المكاتب كوسطاء بين الطالب والموظف، لتتحول العملية التعليمية والبيروقراطية الجامعية إلى سوق مفتوح قائم على المال والوساطة.

قصص حقيقية: طلاب بين مطرقة الابتزاز وسندان الحاجة

محمد، شاب سوري يقيم في لبنان، يروي أنه اضطر للتعامل مع أحد هذه المكاتب لاستخراج شهادة ومصدقة التخرج لشقيقه من كلية الآداب – قسم اللغة العربية في الحسكة، وذلك قبل سقوط النظام بفترة قصيرة. “طلب منا صاحب المكتبة 180 دولاراً”، يقول محمد، “وبعد نقاش طويل وكأننا نتفاوض على سلعة، وافقنا لأننا كنا نحتاج الأوراق بسرعة، ولا وسيلة للحصول عليها مباشرة من الكلية”.

ويتابع: “سألناهم عن السبب في ارتفاع المبلغ، فقالوا إن جزءاً كبيراً منه يذهب للموظفين في الكلية لأنهم لا ينجزون شيئاً دون دفع، وأن الأمور قد تطول لأشهر إن لم ندفع”.

أما نغم، وهي خريجة كلية العلوم ومقيمة حالياً في فرنسا، فتقول إنها دفعت 150 يورو مقابل الحصول على أوراقها الجامعية من الكلية. وتضيف أن اسمها الحقيقي ليس نغم، وإنما اسم مستعار اختارته خوفاً من أن يؤدي تصريحها إلى “يشطب قيدها” من الجامعة أو تعرّضها لمشاكل في المستقبل من موظفين داخل الكلية. تقول: “لم يكن لدي خيار سوى الدفع، فأنا أحتاج أوراقي لإكمال معادلة شهادتي في فرنسا، والكل قال لي إن الطريقة الوحيدة للحصول عليها هي عبر هذه المكاتب”.

غياب الرقابة يُحوّل الفساد إلى قاعدة

تُظهر هذه الشهادات وغيرها من القصص التي لا يتم توثيقها علناً أن الفساد الجامعي في كليات الحسكة لم يعد مجرد ممارسات فردية أو استثناءات، بل أصبح جزءاً راسخاً في النظام الإداري للجامعات هناك. وغياب السلطة المركزية والرقابة الفعلية على الكليات التي تقع خارج سيطرة الدولة السورية الرسمية سمح بترسيخ هذه الممارسات، حتى باتت جزءاً من العُرف الجامعي، يدفع ثمنه الطالب وحده.

إن استمرار هذا الواقع يُهدد مصداقية الشهادات الجامعية السورية، ويُحول التعليم العالي إلى تجارة قائمة على الابتزاز. وفي الوقت الذي يعاني فيه آلاف الطلاب من ظروف معيشية صعبة، يُضاف عبء مالي وأخلاقي جديد يفرضه فساد داخلي لا يجد من يردعه أو يحاسبه.

وبينما تغيب الإرادة الحقيقية للإصلاح، تظل مكاتب الخدمات الجامعية تلعب دور الوسيط غير الشرعي بين الطالب ومؤسسة يُفترض بها أن تكون حامية للعلم، لا بوابة لشراء الشهادات والخدمات.

مقالات ذات صلة