الصمت السوري تجاه صراع إسرائيل وإيران: استراتيجية أم ضرورة واقعية؟

Facebook
WhatsApp
Telegram

في ظل التصعيد العسكري المتواصل بين إيران وإسرائيل، وتصاعد وتيرة الضربات الجوية والانتقامية عبر الأجواء السورية، بقيت الحكومة السورية الجديدة صامتة، ولم تُصدر حتى اللحظة أي تصريح رسمي أو موقف دبلوماسي واضح حيال هذه التطورات.

هذا الصمت، الذي قد يبدو للوهلة الأولى غامضًا أو مفاجئًا، يحمل في طياته قراءة سياسية عميقة لحالة الدولة الوليدة، التي تسعى لرسم خط سياسي جديد مختلف عن عهد النظام السابق.

“النأي بالنفس” كاستراتيجية أولية

تشكل التطورات الأخيرة في الصراع بين إيران وإسرائيل منعطفًا كبيرًا على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي. وفي هذا السياق، تكتسب سوريا أهمية خاصة من حيث موقعها الجغرافي الاستراتيجي، خاصة بعد سقوط النظام السابق وانتهاء الوجود الإيراني والمليشيات الإيرانية والعراقية واللبنانية فيها.

ومنذ انتصار الثورة، بدأت سوريا تعمل جاهدة على تحقيق الاستقرار وتأمين الظروف اللازمة لإعادة إعمار ما دُمّر خلال السنوات الماضية، بالإضافة إلى إعادة هيكلة الجيش والمؤسسات الحكومية، ورسم سياسة خارجية تتناسب مع مصالح الدول الأوروبية والإقليمية والعربية، بما يخدم أمنها واستقرارها ويحصنها من أي تهديدات داخلية أو خارجية.

ورأى المحلل السياسي محمد بقاعي، في حديثه لمنصة سوريا 24، “أنه من الممكن القول إن الصراع الإسرائيلي الإيراني، الذي ظهر جليًا على خطورة الوضع، قد تكون له تداعيات كبيرة على الساحة الإقليمية في المنطقة”.

وأضاف أن الإدارة السورية الجديدة تسعى إلى “إبعاد سوريا عن أي محور، وفي الوقت نفسه تعمل على خفض مستوى المشاكل أو التوترات التي قد تنخرط بها”.

وأشار بقاعي إلى أن النأي بالنفس ليس مجرد سلوك تكتيكي، بل هو موقف استراتيجي في المرحلة الحالية، يستهدف تجنيب البلاد الدخول في متاهات إقليمية معقدة، لا سيما في ظل هشاشة البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل سوريا.

وأكد أن توسع إطار النزاع بين طهران وتل أبيب قد يخلق تحديات جديدة للدولة السورية، وهنا قد تستدعي الأمور اتخاذ بعض المواقف أو التعديلات في السياسة الداخلية أو الخارجية لمواجهة هذه التحديات المتوقعة.

ماذا يعني هذا الصمت على الأرض؟

ورغم عدم وجود رد فعل رسمي من الحكومة السورية، فإن الواقع الميداني يشير إلى استمرار استخدام بعض المناطق السورية كمسرح للصراعات الجانبية بين إيران وإسرائيل.

ومع ذلك، يبدو أن السلطات الجديدة تفضل التعامل مع الأمر بحكمة، دون إثارة الجدل أو دفع الثمن السياسي أو الأمني المباشر.

لكن السؤال الملح يبقى: هل يمكن لسوريا أن تبقى محايدة فعليًا في ظل التداخل المعقد بين المصالح الإيرانية، والنفوذ الإسرائيلي، والحسابات الدولية؟

تحول جوهري في العقيدة السياسية

وباعتبار أن سوريا خرجت من صراع طويل امتد لأكثر من عقد من الزمن، فقد اتبعت سياسة الحياد والنأي بالنفس عن جميع الصراعات الإقليمية والدولية، والالتفات إلى الداخل وبناء ما دمرته الحرب طوال هذه الفترة الزمنية.

كما أنها بدأت ترسم سياسات جديدة، وتبني شراكات اقتصادية مع الدول الإقليمية والدولية، وابتعدت عن سياسة المحاور في النزاعات الدولية والإقليمية، إيمانًا منها برسم سياسة جديدة تعتمد على التعاون مع الدول سياسيًا واقتصاديًا.

من جانبه، رأى الصحفي باسل المحمد، أن “التزام الحكومة السورية الجديدة الصمت حيال التصعيد العسكري المتكرر بين إيران وإسرائيل لا يعكس موقفًا عابرًا أو انشغالًا بملفات داخلية فحسب، بل هو مؤشر على تحول جوهري في العقيدة السياسية والدبلوماسية لسوريا ما بعد الأسد”.

وقارن المحمد في حديثه لمنصة سوريا 24 بين النظام السابق، الذي كان جزءًا من “محور المقاومة” في خطابه، ومنطقة نفوذ إيرانية في الواقع، والإدارة الجديدة التي تسعى لإعادة تعريف دورها الإقليمي بعيدًا عن التبعية أو الانتماءات الطائفية. واعتبر أن هذا الصمت “يخدم ثلاثة أهداف استراتيجية في الوقت نفسه”:

* إعادة التموضع الإقليمي: إذ “تسعى سوريا الجديدة إلى تقديم نفسها كدولة تسعى للاستقرار، وليست ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية أو منصة لإطلاق الصواريخ من قبل جهات غير حكومية. الصمت هنا هو رسالة غير معلنة إلى الغرب، وإلى الدول العربية، أن دمشق الجديدة لا تنوي الدخول في مغامرات خارجية ولا الانحياز إلى معسكرات إقليمية بعينها”.

* ضبط الداخل السوري الهش: خاصة وأن “الملف الإيراني لا يزال متشعبًا في الداخل السوري، من خلال خلايا أمنية، وميليشيات محلية، وشبكات تهريب ومال سياسي. أي تصريح هجومي أو حتى منحاز قد يُفجر جبهات داخلية نائمة أو يؤجج نزاعات طائفية في مناطق حرجة. لذلك، الصمت هو أيضًا أداة لحماية التماسك الداخلي في مرحلة إعادة البناء”.

الحياد الإيجابي المؤقت: مبينًا أنه “في ظل غياب وضوح كامل في ميزان القوى الإقليمي، وعدم معرفة إلى أين تتجه العلاقة بين واشنطن وطهران، أو مستقبل إسرائيل نفسها في ظل تغيرات داخلية، تفضل الحكومة السورية الجديدة التمهل في المواقف، ومراقبة توازنات القوى، قبل أن ترسو على سياسة خارجية نهائية”.

لكن المحمد حذر من أن هذا الصمت “لا يمكن اعتباره موقفًا استراتيجيًا دائمًا”، مشيرًا إلى أنه “يحمل في طياته مخاطر الغموض، خصوصًا أن إسرائيل لا تزال تنفذ غارات عسكرية على مواقع داخل الأراضي السورية، بعضها قرب مناطق مدنية. فالتزام الحكومة الصمت قد يُفسر داخليًا كضعف أو تواطؤ، ما لم يقترن بإعادة ضبط السيادة الفعلية على الأرض، وإنهاء وجود الميليشيات الأجنبية أو المرتبطة بإيران”.

صمت مؤقت أم بداية لسياسة خارجية جديدة؟

من الواضح أن الحكومة السورية الجديدة تسعى لرسم طريق مختلف، تبتعد فيه عن المحاور التقليدية، وتحاول بناء هوية سياسية مستقلة، قائمة على الحسابات الواقعية أكثر مما هي قائمة على الخطاب الأيديولوجي.

لكن هذا الخيار يتطلب شروطًا لا تتوفر حاليًا، مثل استعادة الدولة لسيطرتها الكاملة على الحدود، وإعادة تنظيم الجيش والأجهزة الأمنية، وتفكيك الميليشيات المسلحة، وبناء علاقة جديدة مع جميع الأطراف الإقليمية.

وفي الوقت الحالي، يبقى الصمت السوري مزيجًا بين الحكمة والاستعجال، بين الحذر والتريث، وبين الرغبة في الاستقلال الوطني، وحقيقة الواقع السياسي المعقد.

فهل ستتمكن دمشق من ترجمة هذا الصمت إلى سياسة خارجية فاعلة؟ أم أن الغموض قد يتحول إلى ضعف إذا لم تُترجم الكلمات إلى أفعال؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.

مقالات ذات صلة