في صباح رمضاني دافئ من عام 2016، أغلق محمود عفش باب منزله في مدينة عندان شمالي حلب، متجهًا إلى الأراضي التركية هربًا من القصف، حاملاً معه عائلته وبعضًا من الأمل. آنذاك، لم يتخيل أن يعود إلى نفس الحي، ويفتح فيه محلًا صغيرًا لبيع المواد الغذائية بعد سقوط النظام، ويعيد ترميم منزله المتضرر، ويبدأ من الصفر مجددًا.
اليوم، بعد مضي أكثر من ثماني سنوات، يعود محمود إلى عندان، ويقول: “كنت مقيمًا في تركيا، والأوضاع كانت جيدة في البداية، لكن مؤخرًا أصبحت المعيشة صعبة جدًا، وقررت أن القرار الأفضل هو العودة إلى بلدي، والعمل فيها، وفتح مشروع بسيط يعيل أسرتي. هنا أعيش بدخل بسيط، لكن مستقر، وتكاليف الحياة أقل بكثير من تركيا”.
يشير محمود إلى أنه “في تركيا، بات من الصعب أن يعيل ثلاثة أشخاص أنفسهم في المنزل، بينما هنا، بدخل يتراوح بين 250 و300 دولار، يمكن أن تعيش بشكل متوسط، وخاصة إن كنت صاحب مصلحة حرة”.
أرقام العودة في تصاعد
في تصريحات رسمية حديثة، كشف وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا عن تسجيل ارتفاع لافت في أعداد السوريين العائدين طوعًا إلى بلادهم عقب سقوط النظام السوري في 9 ديسمبر 2025. وبحسب الوزير، بلغ عدد العائدين خلال الفترة الممتدة من ديسمبر حتى منتصف أبريل 2025 نحو 175,512 شخصًا، ما يعادل قرابة 33,730 عائلة.
وأشار يرلي كايا إلى أن هذا التطور يأتي ضمن مسار متواصل من العودة بدأ منذ عام 2017، حيث بلغ إجمالي العائدين منذ ذلك التاريخ أكثر من 915 ألف شخص، موضحًا أن الظروف المستجدة داخل سوريا، وفي مقدمتها التغير السياسي، ساهمت بشكل مباشر في تسريع وتيرة العودة.
وأكد الوزير أن الحكومة التركية تعمل على تنظيم هذه العودة ضمن إطار “آمن ومنظّم وكريم”، بالتنسيق مع المجالس المحلية داخل سوريا. كما أشار إلى أن تركيا منحت تصاريح مؤقتة خاصة لنحو 27,000 سوري ضمن برنامج “المهاجرين الرواد”، لتمكينهم من تفقد منازلهم ومناطقهم الأصلية كخطوة أولى نحو العودة النهائية.
من حريتان إلى حلب مجددًا
علاء مصري، من مدينة حريتان، غادر سوريا عام 2016 بعد أن دمّر القصف منزله، واستقر في تركيا وافتتح ورشة لصناعة الأثاث المنزلي في 2021، لكن بعد تحرير مدينته، ونظرًا لضعف العمل وارتفاع الإيجارات في تركيا، قرر العودة إلى سوريا.
يقول مصري لمنصة 24: “في تركيا كان أكثر من 70% من زبائني من السوريين، وبعد موجة العودة الأخيرة، ضعُف العمل كثيرًا، وقررت العودة بالتعاون مع شريكي، ونقلنا آلاتنا من تركيا إلى حريتان”.
وقارن المصري بين الأسعار في تركيا وسوريا، بالقول: “في تركيا كنت أدفع 1000 دولار فقط كإيجار للمحل، أما هنا فالإيجارات أقل، رغم وجود مشاكل في الكهرباء ونقص البضائع”.
ورغم بعض السلبيات، إلا أن مصري يشعر بالأمان والراحة النفسية في بلده، فـ “النفسية ألف” كما يقول، ويختتم بالقول: “نعم، الأرباح هنا قليلة، لكن المصاريف أيضًا منخفضة، والفرص في تحسن”.
“البلد تحتاج أبناءها”
معروف دعبول، من أبناء مدينة حريتان، عاش في مدينة كلس التركية لمدة 14 سنة، ويعمل في صناعة الموبيليا. عاد إلى سوريا بعد تحرير المنطقة بثلاثة أشهر فقط.
قال معروف لمنصة سوريا 24: “تركت عملي في تركيا وعدت إلى البلد، لأنها بحاجة إلى أبنائها. افتتحت محلاً بسيطًا، وأعمل برزقي. نعم، الأجور والأرباح في تركيا أعلى، لكن هنا أشعر أنني في مكاني الطبيعي”.
مشاعر مختلطة… لكنها تميل إلى الوطن
في حديث آخر مع أحد العائدين من ولاية كلس التركية، يروي كيف عادت به الذكريات فور وصوله إلى بيته القديم في مدينة تل رفعت، ويقول لمنصة سوريا 24: “ذهبت إلى البيت الذي نشأت فيه، وزرت الأماكن التي أحبها، شعرت أنني استعدت روحي”.
ويضيف: “الغربة علمتني أن الوطن لا يُعوّض. نعم، مقومات الحياة في الخارج قد تكون أفضل، لكن الكرامة والانتماء لا يُشترى. سوريا بحاجة إلينا، ونحن بحاجة إليها”.
وأشار إلى أن ملامح المدينة تغيّرت كثيرًا بسبب الحرب والدمار، لكنه أكد أن الناس أنفسهم ما زالوا يحملون الخير، رغم كل شيء.
اليوم، يعود أحمد عفش بعد سنوات من الغربة للاستقرار في مدينته عندان، ويؤكد أن قرار العودة كان صائبًا: “عدنا رغم كل شيء، لأن البلد بلدنا، وسنبنيها من جديد”.