بعد سنوات من العزلة المالية التي فرضتها العقوبات الغربية، تفتح سوريا صفحة جديدة في ملف انفتاحها على العالم بإعلان عودتها الرسمية إلى نظام التحويلات المصرفية العالمي SWIFT. القرار الذي أثار اهتمام الأوساط الاقتصادية والدبلوماسية، اعتُبر خطوة مهمة باتجاه إعادة دمج سوريا في النظام المالي الدولي، لكنه في الوقت ذاته طرح مجموعة من الأسئلة عن الجاهزية المؤسساتية، ومخاطر الفشل، وفرص الاستثمار.
فرصة للانفتاح… ولكن بشروط
بحسب مستشار الامتثال المصرفي والحوكمة ومكافحة الجرائم المالية آلان خضركي، فإن عودة التحويلات المالية عبر سويفت تمثل “تطورًا لافتًا في المشهد المالي السوري”، ويمكن أن تسهم في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي، وتسهيل المعاملات المالية، وخلق بيئة أفضل للاستثمار والتعامل التجاري الخارجي.
لكنه يحذر في المقابل من أن هذا التحول “لا يخلو من تحديات كبيرة، خاصة من منظور مكافحة الجرائم المالية والامتثال للمعايير الدولية المتقدمة”.
وترى الخبيرة الاقتصادية والوزيرة السابقة لمياء عاصي أن العودة إلى SWIFT “خطوة مهمة”، لكنها لا تعني بالضرورة نهاية القطيعة. فوفق تعبيرها: “للاستفادة منها لا بد من إجراء إصلاحات مؤسساتية كبيرة في القطاع المالي، وبالتأكيد نجاح تلك الإصلاحات يتطلب إرادة سياسية قوية ودعم وشراكات دولية، واستراتيجية تنفيذية واضحة”.
في السياق ذاته، تؤكد الصحفية المختصة بالشأن الاقتصادي فيوليت بلعة أن قرار العودة “يضع اللبنة الأولى في مشروع حجز مقعد جديد لسوريا في النظام المصرفي العالمي بعد غياب طال منذ العام 2011″، مشيرة إلى أن هذه الخطوة تنعكس أولاً على البنك المركزي من خلال تدفق العملات الصعبة إلى خزائنه، ما قد يساهم في دعم الاستقرار النقدي، وتحفيز المناخ الاستثماري في البلاد.
الاختبار الصعب: تحديات تقنية وتشريعية وأخلاقية
لكن الانفتاح وحده لا يكفي، إذ يُجمِع الخبراء الثلاثة على أن النجاح الحقيقي رهن بتحقيق شروط متعددة، تبدأ من التشريعات ولا تنتهي بالبنية الرقمية.
خضركي يوضح خلال حديثه لمنصة سوريا 24 أن سوريا تواجه تحديات بنيوية تبدأ بـ”ضعف الأنظمة والتشريعات الناظمة”، حيث تحتاج القوانين إلى “تحديث جذري لتتماشى مع متطلبات الامتثال العالمية، خصوصًا تلك المتعلقة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب”.
كما يشير إلى “فقدان الكوادر المؤهلة” للعمل في الامتثال، وانعدام الثقة بالقطاع المصرفي المحلي نتيجة ممارسات غير قانونية في الحقبة السابقة، فضلاً عن “غياب شبكة بنوك مراسلة ذات مصداقية”، وهو ما يجعل من استعادة الثقة الدولية تحديًا حقيقيًا.
في المقابل، تؤكد عاصي لمنصة سوريا 24 أن البنية التحتية المصرفية في سوريا “عاشت شبه عزلة عن التعامل مع المصارف العالمية”، ولذلك فهي “بحاجة إلى توافق مع معايير صارمة تشمل الأنظمة الإلكترونية، وأمن المعلومات، ومعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ومعايير بازل 3”.
وتشير إلى أن رفع العقوبات ما يزال قيد المراجعة، والمصارف تحتاج إلى “تأهيل الكوادر على الامتثال للمعايير الدولية”.
أما فيوليت بلعة، فتعتبر أن هذه الخطوة، رغم رمزيتها، “هي البداية فقط”، لأن “عودة سويفت لا تعني بالضرورة إصلاحًا فعليًا، إن لم تترافق مع ورشة تقنية وتشريعية واسعة”.
وتشير خلال حديثه لمنصة سوريا 24 إلى أن المصارف تحتاج إلى تحديث سريع للبنية التقنية، ومواكبة التطورات المصرفية العالمية، بما في ذلك الامتثال، والأمن الرقمي، ومكافحة تبييض الأموال.
انعكاسات اقتصادية مباشرة… وآمال بتقليص اقتصاد الظل
من الناحية الاقتصادية، يرى خضركي أن هذه اللحظة تشكل “فرصة ذهبية”، مشيرًا إلى أن بناء نظام تحويلات مؤتمت برعاية البنك المركزي، واعتماد المعايير الأوروبية الحديثة (مثل DORA وISO 20022)، من شأنه أن يحقق الصمود الرقمي، ويقلل من المخاطر التقنية، ويفتح الباب أمام منصة وطنية موثوقة.
ويقترح “إنشاء وحدة مركزية للامتثال والتدقيق” تكون مستقلة، وتتولى إدارة مخاطر التحويلات ومتابعة الامتثال بالتنسيق مع الجهات الدولية.
لمياء عاصي بدورها تشير خلال حديثها لمنصة سوريا 24 إلى أن تفعيل SWIFT “سيساعد في كثير من العمليات التجارية والمالية”، منها تسهيل التجارة الخارجية، وخفض تكلفة فتح الاعتمادات المستندية، وتسريع التسويات المالية، فضلاً عن تسهيل تحويلات المغتربين.
كما ترى أن “عودة سويفت تعني الالتزام بالمعايير الدولية، مما يزيد اطمئنان الشركات والمؤسسات الأجنبية”.
وتضيف فيوليت بلعة أن “عودة النشاط إلى عجلة الاقتصاد السوري واستعادة دوره في التجارة الدولية من بوابات شرعية مقبولة من المجتمع المالي الدولي من شأنها تحفيز المناخ الاستثماري وتعزز مشاعر الثقة”، وتؤكد أن الخطوة تساهم في “تحويل عمليات اقتصاد الظل إلى اقتصاد شرعي”، وتدعم جهود مكافحة غسل الأموال، مما يُعزز الموقع المالي لسوريا تدريجياً.
الثقة والاستثمار: تحديات مستمرة وأسس لا غنى عنها
في ما يخص تأثير العودة على ثقة المستثمرين، يشير خضركي إلى أن “استعادة ثقة البنوك المراسلة يتطلب التزامًا واضحًا بالشفافية، الحوكمة، والامتثال للمعايير الدولية”.
ويرى أن الانطلاق من الصفر قد يكون أسهل من محاولة تصحيح أنظمة متآكلة، ما دامت هناك نية حقيقية لبناء قطاع مصرفي نظيف.
عاصي من جهتها تعتبر أن “التحديات السياسية ما زالت حجر عثرة أمام اجتذاب الاستثمارات الأجنبية”، مشيرة إلى أن المستثمرين يترددون بسبب احتمال عودة العقوبات بعد انتهاء فترة السماح الحالية.
وتقول بصراحة: “المستثمر يبحث عن استقرار تشريعي وتنظيمي، وسهولة في التأسيس والإغلاق واسترداد الأرباح”، مضيفةً أن “الحكومة مطالبة بتقديم ضمانات حقيقية لجذب رأس المال المحلي والدولي”.
وتختم بلعة بأن “عودة سويفت تعني بداية استقرار سعر صرف الليرة السورية، وجذب الاستثمارات، وتمويل البنية التحتية المتداعية”، لكنها تحذر في الوقت نفسه من التحديات التنظيمية والسياسية التي قد تؤخر هذا التحول، وتدعو إلى عدم المبالغة في التفاؤل قبل تحقيق الشروط الموضوعية للاستقرار.
خطوة أولى… لكنها ليست كافية
في المجمل، تُجمع آراء الخبراء على أن عودة سوريا إلى نظام سويفت تشكل خطوة رمزية ومهمة، لكنها تظل غير كافية ما لم تُرافقها إصلاحات حقيقية وعميقة في القوانين، والمؤسسات، والبنية التقنية. الفرصة متاحة، ولكن النجاح يتطلب أكثر من رغبة: يتطلب التزامًا سياسيًا، وانضباطًا مصرفيًا، وشراكة صادقة مع المجتمع المالي العالمي.
كما أنّ العودة إلى النظام المصرفي العالمي، يطرح أسئلة مشروعة حول جدوى وجود شركات الصرافة والحوالات المنتشرة في عموم البلاد، والتي كانت تستخدم من قبل النظام البائد في عمليات غسيل الأموال والاحتيال على القانون؟