خناصر… بلدة سورية سحقتها لعنة الجغرافيا وتراهن على أمل العودة من تحت الركام

Facebook
WhatsApp
Telegram

خاص – سوريا 24

لم يكن حسين عيد الحسين يتخيل أن يعود يومًا إلى بلدته خناصر، بعد سنوات من التهجير والخوف والمخيمات. يقف الآن قرب بيته المدمر جنوب البلدة، يحدّق في الجدران المتهالكة بصمت ثقيل، ويقول: “كان هذا منزلي، مأواي، والآن صار ركامًا بفعل طائرات النظام.. حلمت به طيلة سنوات النزوح، وحين عدت وجدته رمادًا”.

في عام 2012، بدأ النزوح الجماعي من خناصر تحت القصف العنيف الذي لم يُوفّر بيتًا ولا زقاقًا.

كانت البلدة تقع على طريق معامل الدفاع، خط نار مكشوف بين أطراف الصراع، اضطر حسين، كغيره من الأهالي، للهروب مع عائلته نحو الجبال والقرى المجاورة، حيث أمضى شهورًا في الصحراء، يتنقل بين أماكن النزوح.

يروي لمنصة سوريا 24 تغريبته، ويقول: “سكنت أربعة أشهر في الخلاء، وتوفي الكثير من أبناء بلدتي في طريق الهرب”.

ويتحدث عن آلام الفقد التي مرّ بها مع أبناء بلدته: “خناصر دفعت ثمنًا كبيرًا؛ من قرانا استُشهد العشرات، وفي رسم النفل وحدها ارتُكبت مجزرة راح ضحيتها أكثر من مئتي شخص، معظمهم من النساء والأطفال”.

خناصر… بلدة استراتيجية دفعت ثمن موقعها

تقع بلدة خناصر إلى الجنوب الشرقي من مدينة حلب، وتشكل عقدة استراتيجية تربط بين ريف حلب، البادية السورية، ومعامل الدفاع القريبة. لطالما اعتُبرت خناصر نقطة عبور رئيسية للإمدادات العسكرية، ما جعلها على مدى سنوات هدفًا مشتركًا لقصف النظام السوري وهجمات تنظيم داعش.

شهدت البلدة موجات متكررة من القصف والمعارك، تخللتها مجازر مروعة، أبرزها مجزرة المزرعة ومجزرة رسم النفل، التي قُتل فيها ما يقارب 207 مدنيين بين نساء وأطفال وشيوخ، وفق شهادات أهالي البلدة. كما راح العشرات من أبناء خناصر ضحية الهجمات الجوية والتفجيرات العشوائية خلال فترة سيطرة التنظيم على أطراف البلدة أو مرور قوات النظام عبرها.

بسبب التصعيد المستمر، نزح أكثر من 60 ألف نسمة من سكان خناصر وقراها خلال السنوات الماضية، فيما تعرضت البنية التحتية لتدمير هائل، قُدّر بنحو 80% من منازلها وطرقها ومرافقها العامة.

رحلة نزوح ومخاض هجرة الديار

حمود نصّار، أحد العائدين حديثًا، يستذكر تفاصيل النزوح القاسية، قائلاً: “كنا خمس عائلات في غرفتين داخل مدرسة مهجورة، نطبخ على النار، نحمل المياه من مسافات بعيدة، والشتاء حينها كان قاسيًا جدًا… كنا محاصرين والخوف لا يفارقنا، فالنظام لم يكن بعيدًا عنا سوى بكيلومترات”.

ويضيف لمنصة سوريا 24: “أصعب ما عشناه لم يكن الفقر فقط، بل أصوات القصف المستمر، وغياب المكان الآمن، والحياة التي فقدت كل معنى”.

الحنين إلى الديار والعودة المكلومة

رغم كل ذلك، دفع الحنين كثيرين للعودة. يقول حسين: “عدت لأن هذه الأرض أمي.. شعرت أن خناصر تعانقني حين وطأتها من جديد”، لكن صدمته بما رأى كانت كبيرة، كما يقول: “البلدة مدمّرة، والبيوت مهجورة، والشوارع بلا حياة.. رأيت منزلي الذي حلمت بالعودة إليه، مهدّمًا بالكامل، لم يترك الشبيحة فيه حجرًا على حجر”.

صدمة ما بعد العودة لم تتوقف عند المشهد البصري فقط، بل امتدت إلى غياب الخدمات الأساسية. يوضح حسين: “الكهرباء مقطوعة كليًا، والماء لا يصل، رغم أن هناك خط مياه قادمًا من السفيرة إلى البلدة، لكنه متوقف عن الضخ بسبب غياب السيولة المالية”.

ويضيف: “مضخات خط خناصر ما تزال تعمل تقنيًا، لكن هناك نقصًا حادًا في مادة المازوت اللازمة لتشغيل المضخات في منطقة البحوث العلمية بالسفيرة”، وأنه لم يبقَ من ملجأ للأهالي سوى الاعتماد على صهاريج خاصة تنقل المياه من القرى المجاورة، ومع الغلاء، صار حتى الشرب عبئًا”.

ويتابع بحزن: “أفكر بإعادة بناء منزلي، لكن لا أملك شيئًا.. لا توجد منظمات إنسانية تدعمنا، ولا أي جهة تساعدنا.. ربما أضطر للعودة للسكن في خيمة رغم أنني عدت إلى أرضي. مؤلم أن تُهجّر في وطنك مرتين، مرة بالنار، ومرة بالإهمال”.

الواقع الخدمي سيئ ولا نقاط طبية في المكان

ياسر الإبراهيم، رئيس المجلس المحلي، يشرح الواقع الخدمي للبلدة، ويقول لمنصة سوريا 24: “رغم بعض مظاهر الاستقرار، إلا أن النسبة الحقيقية للعائدين لا تتجاوز 5%، إذ اقتصر عددهم على نحو 6 آلاف شخص، من أصل ما يقرب من 60 ألف مهجّر”، وأن نسبة الدمار في البلدة تجاوزت 80%.

ويوضح الإبراهيم أن “الخدمات شبه معدومة.. لا كهرباء، لا مياه، المستوصف غير فعّال، ولا توجد نقاط طبية حقيقية. التعليم عاد بشكل خجول، والمزارعون لا يتلقون أي دعم، والسكان لا تصلهم مساعدات”.

ويشير الإبراهيم إلى أن البلدة تعاني من عمليات سرقة وتشليح تطال حتى أسلاك الكهرباء، في ظل غياب الدولة والمنظمات.

ويضيف: “نحن على أطراف البادية، في منطقة نائية، وتحتاج البلدة إلى خطة طارئة شاملة لإعادة تأهيل البنية التحتية وتأمين حياة كريمة للناس”.

من ساحة للصراع إلى وعد بالحياة

كانت خناصر، لسنوات، أكثر من مجرد بلدة منسية على هامش الجغرافيا السورية؛ كانت قبلة للمتصارعين، تمرّدت فيها الطرق على السكون، وتحوّلت منازلها إلى خرائط للدمار، وشوارعها إلى مساحات للانتظار والخوف.

دفع أبناؤها ثمن موقعها، وذاقوا مرارة التهجير، ودفنوا أحلامهم تحت ركام البيوت التي سكنتها الطائرات والنيران.

لكن رغم كل ما فقدته خناصر، لم تفقد صوتها، ذلك الصوت الذي عاد مع خطوات العائدين، المفعمين بالحذر، المحمّلين بذكريات المساجد والجيران، وبأملٍ خافتٍ يشبه ضوءًا يتسلل من نافذة مدمّرة. عادت بعض العائلات، لا لأنها تملك ما تعود إليه، بل لأنها لم تجد في الغربة وطنًا بديلاً.

اليوم، خناصر تقف بين زمنين: زمن الانكسار الذي سكن وجدانها، وزمن الأمل الذي لم يُكتب بعد.. تحتاج البلدة إلى أكثر من كهرباء وماء وطريق معبّد؛ تحتاج إلى من يعترف بوجعها، ويستثمر في نهوضها، لتغدو من جديد بلدةً للحياة، لا نقطةً على خريطة المعارك.

بين أطلالها، لا تزال تنبض بالحياة أسرٌ لم تترك حلمها، وأطفال يتعلّمون في غرف مهدّمة، وقلوب تنتظر أن يعود الوطن… لا بالسلاح، بل بالعدالة، والإعمار، والكرامة.

يختم حسين العائد إلى بلدته حديثه بنبرة يملؤها الرجاء: “أتمنى أن تعود خناصر إلى بهجتها، أن يُرمم كل بيت مهدّم، وأن يجد الشباب فرصة للعمل… نريد فقط أن نعيش بكرامة.. لا نريد أكثر من بيت فيه ماء وكهرباء وأمان”.

ويضيف: “هذه هي أبسط حقوقنا، فكما كانت خلال الثورة مغنمًا لكل الطامعين بالسيطرة والنفوذ، أتمنى أن تتحول إلى موئل لكل باحث عن الاستثمار وإعادة الإعمار”.

مقالات ذات صلة