في مدينة القامشلي، يواصل أنطو بدرسيان، ابن الخامسة والخمسين، حمل شعلة مهنة توارثتها عائلته الأرمنية على مدى قرون. يقول أنطو بفخر: “نحن نعمل بصناعة الفخار منذ سنين عديدة، وهي حرفة توارثناها أبًا عن جد، تعود أصولها إلى السابع من أجدادي الذين جاءوا من تركيا واستقروا في سوريا.”
تعلّم أنطو الحرفة من والده، الذي ورثها بدوره عن والده، وهكذا تشكّلت سلسلة متصلة من الصنّاع المهرة، حافظوا على هذا الفن التقليدي الذي يكاد يندثر في زمن الصناعات الحديثة. واليوم، يعدّ أنطو آخر صانع فخار في مدينة القامشلي، محافظًا على هذا التراث الغني وسط تحديات كثيرة.
تحديات وصعوبات
يواجه أنطو صعوبات جمة، أبرزها تأمين نوعية التربة الملائمة لصناعة الفخار. يقول: “التربة المناسبة غير متوفرة في القامشلي، لذا نضطر لجلبها من إدلب أو حلب أو دمشق، وهذا يتطلب جهدًا ومصاريف كبيرة بسبب صعوبة المواصلات وتدهور البنية التحتية.”
رحلة صناعة الفخار: من الطين إلى الإبداع
تبدأ عملية صناعة الفخار بمرحلة دقيقة من تجهيز التربة. يتم غربلة الطين وتنقيته من الشوائب والحجارة، ثم يُخلط بالماء ويوضع في برك ترابية لمدة تتراوح بين 10 إلى 15 يومًا كي يختمر ويصل إلى القوام المطلوب. بعد ذلك، يُجفف الطين وتبدأ مرحلة “الدوس”، حيث يُعجن بالأقدام حتى يصبح متماسكًا وجاهزًا للتشكيل.
يستخدم أنطو عجلة يدوية بدائية تُعرف باسم “الدولاب”، وهي آلة خشبية قام والده بصنعها يدويًا، تعمل بالحركة الدائرية عبر القدمين. يُشكّل الطين على هذه العجلة بأيدٍ خبيرة ليأخذ أشكالًا مختلفة: جرار، أواني، أو قطعًا فنية تراثية.
بعد التشكيل، تُنقل القطع إلى غرفة مخصصة للتنشيف، أو تُعرض لأشعة الشمس في الصيف، ثم تمر بمرحلة الحرق في أفران خاصة، وأخيرًا تُغمر بالماء لتصبح صالحة للاستخدام وتُكسبها القوة والصلابة.
أدوات متوارثة وجزء من الهوية
لا تقتصر المهنة على الطين والدولاب فقط، بل تشمل مجموعة أدوات بسيطة لكن فعالة، معظمها قديم ومتوارث عبر الأجيال، منها ما صُنِع قبل عشرات السنين. يعتبر أنطو هذه الأدوات جزءًا من التراث الذي يحمله على عاتقه، ويحاول أن يصونه بكل الوسائل.
تراث مهدد بالاندثار
رغم الصعوبات، يصرّ أنطو على الاستمرار، لكنه يشعر بالحزن لكونه الوحيد الذي لا يزال يعمل في هذه الحرفة في القامشلي، ويخشى أن تضيع هذه المهارة مع الزمن في ظل غياب المتعلمين الجدد والاهتمام المؤسسي.
“الفخار ليس مجرد مهنة، بل هوية، وتاريخ، وثقافة متجذّرة فينا” يقول أنطو، مؤمنًا أن استمرار هذا الإرث يتطلب دعمًا حقيقيًا من المجتمع والمؤسسات الثقافية، وربما مشاريع تدريبية تُعيد الحياة لهذا الفن الأصيل.