أثار مرسوم رفع الرواتب بنسبة 200% في سوريا جدلًا واسعًا، بين من رآه محاولة لتخفيف الضغط المعيشي، ومن حذّر من كونه مجرد قفزة تضخمية لن تدوم آثارها طويلًا. فبين أرقام الموازنة المرهقة وعجز الخزينة، تطفو أسئلة كثيرة عن مصادر التمويل، واستدامة هذه الخطوة، وواقع السوق في ظل التغيرات السياسية والاقتصادية.
التمويل موجود… بشرط التوازن
يرى الخبير الاقتصادي معروف الخلف أن تمويل هذه الزيادة يتم بشكل رئيسي من موازنة الدولة، من خلال إعادة ترتيب النفقات العامة، إضافة إلى وعود عربية بدعم كتلة الرواتب.
ويؤكد لمنصة سوريا 24 أن صرف الزيادة دفعة واحدة بنسبة 200% سيؤدي على الأرجح إلى زيادة ملحوظة في الأسعار، بينما توزيعها على مراحل تدريجية (حتى 400%) يمكن أن يخفف حدة الصدمة التضخمية، بشرط أن تترافق مع زيادة في الإنتاج والخدمات.
ويضيف الخلف أن ضخ كتلة نقدية كبيرة يتطلب توازنًا دقيقًا مع تحفيز القطاعات الإنتاجية، مشيرًا إلى أن الاقتصاد السوري بدأ “ينتعش بشكل تدريجي”، ما يعني أن خزينة الدولة باتت قادرة – ولو جزئيًا – على تغطية الرواتب. ويرجع هذا الانتعاش إلى إيرادات قادمة من الرسوم والمعابر والخدمات، رغم غياب أرقام رسمية دقيقة حتى الآن. ويتوقع أن تصدر مع بداية العام المقبل تقديرات رسمية أكثر دقة لبناء موازنة 2026.
الإدارة السورية الجديدة أوقفت العمل بموازنة النظام السابق واعتمدت “الاثني عشرية”
في سياق التحول السياسي والإداري، أعلن وزير المالية في الحكومة السورية المؤقتة السابق، محمد أبا زيد، التي تلت سقوط النظام البائد، أن عجز الموازنة التي أقرها النظام السابق لعام 2025 بلغ نحو 12 تريليون ليرة سورية (ما يعادل نحو 923 مليون دولار).
وأوضح في تصريح لوكالة “سانا”، في وقت سابق، أن الحكومة قررت تعليق العمل بهذه الموازنة، واعتماد مبدأ “الموازنة الاثني عشرية” مؤقتًا، ريثما تستقر الظروف الاقتصادية، ويُعاد إعداد موازنة جديدة للدولة.
وأكد أبا زيد أنه ستُطرح زيادة خاصة على رواتب المتقاعدين لاحقًا بعد الانتهاء من التدقيق المالي، مع إطلاق حزمة قرارات لإصلاح النظام الضريبي تخفف الأعباء عن التجار وأصحاب المهن، في ظل نية تحسين التحصيل واسترداد الأموال المنهوبة في عهد النظام السابق.
موازنة 2024: أرقام ضخمة… بقيمة محدودة
الموازنة التي تُستخدم كأساس للإنفاق حاليًا تعود إلى عام 2024، وكانت قد بلغت 52.6 تريليون ليرة سورية، خُصص منها 26.5 تريليون ليرة للنفقات الجارية كرواتب وخدمات ودعم، و9 تريليونات ليرة للاستثمار.
ورغم ضخامة هذه الأرقام بالعملة المحلية، إلا أنها لا تتجاوز 2.6 مليار دولار بسعر الصرف السابق حين إقرارها، ما يسلط الضوء على هشاشة الموارد أمام احتياجات البلاد المتزايدة، وهو أيضًا ما دفع الحكومة السورية الجديدة لإلغاء العمل بها؛ كونها لا تحقق التوازن بين الاحتياجات والموارد.
خبيرة اقتصادية: زيادة ضرورية ولكن مشروطة
في المقابل، ترى الخبيرة الاقتصادية والوزيرة السابقة لمياء عاصي أن خطوة زيادة الرواتب الأخيرة في سوريا ضرورية بالنظر إلى الهوة المتزايدة بين الرواتب الفعلية وتكاليف المعيشة اليومية، لكنها تحذّر في الوقت نفسه من أن هذه الزيادة قد تتحول إلى مجرد أرقام على الورق إذا لم تُرافقها إصلاحات اقتصادية حقيقية.
وتقول لمنصة سوريا 24 إن “كل زيادة سابقة في الرواتب كانت تتبعها مباشرة موجة من ارتفاع الأسعار، ما جعل أثرها على المواطنين شبه معدوم”، معتبرة أن المشكلة ليست في الزيادة بحد ذاتها، بل في طريقة تمويلها وآلية تطبيقها في سوق متقلب.
وبحسب عاصي، فإن ضمان نجاح الزيادة مرهون بثلاثة عناصر جوهرية: أولها أن يتم تمويلها من مصادر واقعية، مثل تحسين التحصيل الضريبي أو إعادة ترتيب أولويات الإنفاق الحكومي، لا من خلال طباعة المزيد من النقود، لما لذلك من آثار تضخمية سريعة.
ثانيًا، ترى أنه على الحكومة العمل بجدية على توسيع الإنتاج المحلي، خاصة في القطاعات الحيوية كالزراعة والصناعة الدوائية، لتقليص الاعتماد على الواردات وموازنة الطلب المتزايد. أما الشرط الثالث، فهو ضبط الأسواق بحزم لوقف انفلات الأسعار ومنع المضاربة.
وتلفت إلى أن ما حدث فعليًا فور صدور قرار الزيادة، حتى قبل صرفها، كان “ارتفاعًا فوريًا في أسعار المواد الغذائية والأساسية”، نتيجة توقّع التجار لموجة تضخم وقيامهم برفع الأسعار استباقيًا. أما أسعار الأدوية، فقد بقيت مستقرة نسبيًا بسبب خضوعها للتسعير المركزي، وهو ما يُظهر أهمية الرقابة.
وتنتقد عاصي ما وصفته بـ”الضبابية” في السياسة النقدية، مشيرة إلى أن المصرف المركزي لم يعلن حتى الآن عن أي إجراءات مرافقة لضخ هذه الكتلة النقدية الجديدة في السوق، محملةً الحكومة مسؤولية الغموض المتعلق بآليات التمويل، وهو ما يُثير مخاوف مشروعة حول الاستدامة المالية.
وفي ختام تحليلها، تحذر عاصي من أن “زيادة الرواتب قد تتبخر في ظل غياب إصلاحات اقتصادية حقيقية، وإذا لم ترافقها رقابة صارمة على الأسواق، وإجراءات لتحسين بيئة الإنتاج، وضبط السيولة النقدية”، مشددة على أن الخطوة بحد ذاتها لا تكفي ما لم توضع ضمن رؤية اقتصادية شاملة تتجاوز الحلول المؤقتة وردود الفعل.
ما مستقبل الرواتب والأجور؟
في ظل غياب موازنة جديدة واستمرار العمل بالاعتمادات الشهرية، تبقى قدرة الحكومة على تحقيق توازن دقيق بين تحسين الرواتب وضبط التضخم مرهونة بسرعة تنفيذ الإصلاحات التي تحدث عنها وزير المالية، من ضرائب وإعادة هيكلة.
ويظل التمويل المشروط من الدول الداعمة مؤثرًا، لكنه غير كافٍ بمفرده إن لم يترافق مع نمو حقيقي في الإنتاج وتحسين بيئة العمل والاستثمار.
وعلى الرغم من اتفاق كل من الخلف وعاصي على ضرورة رفع الرواتب، إلا أن اختلافهما يتمحور حول قدرة الاقتصاد على تحمّل هذه الزيادة في ظل الظروف الحالية.
الخلف يبدي تفاؤلًا مشروطًا بتحسن إيرادات الدولة، فيما ترى عاصي في الزيادة خطرًا تضخميًا إذا لم تُدار بحذر، معتبرة أن نتائجها مرهونة بخطة إصلاح حقيقية ومتكاملة.