تشهد محافظة السويداء جنوب سوريا منذ أسابيع توتراً متصاعداً تحوّل خلال الأيام الأخيرة إلى اقتتال واسع بين فصائل محلية درزية من جهة، والقوات الحكومية السورية من جهة ثانية، قبل أن يمتد الصراع ليشمل مواجهات دامية بين تلك الفصائل وبعض عشائر البدو في المنطقة.
هذا التصعيد يأتي في ظل سياق معقّد تعيشه المحافظة منذ سنوات، إذ كانت قد ابتعدت نسبياً عن المواجهات العسكرية الكبرى خلال سنوات الثورة السورية الأولى، لكنها بقيت مسرحاً لاحتجاجات واشتباكات محدودة وعمليات اغتيال متكررة، فضلاً عن نشاط متزايد لشبكات تهريب المخدرات والسلاح.
التدخل الإسرائيلي ومخاوف الأردن والدول المجاورة
اليوم تعود السويداء إلى واجهة المشهد السوري والإقليمي، ليس فقط بسبب طبيعة الاشتباكات الأخيرة وحجمها، بل أيضاً بسبب التدخل الإسرائيلي المباشر الذي أعلنت تل أبيب أنه يهدف إلى حماية الدروز، وهو ما أثار قلقاً واسعاً لدى الدول المجاورة وعلى رأسها الأردن.
ويُضاف إلى هذا البعد الأمني بُعد آخر سياسي واجتماعي، إذ تتداخل في هذه المنطقة حساسية البنية العشائرية والدينية مع الحدود الأردنية، ما يجعل أي اضطراب فيها مؤثراً على الإقليم بأسره.
الموقف الرسمي الأردني: دعم وحدة سوريا ورفض التدخل
هذا الواقع أعاد ملف الجنوب السوري إلى طاولة البحث الدولي والإقليمي، وطرح مجدداً أسئلة حول مستقبل المحافظة ومصير النفوذ المحلي والخارجي فيها، ودور الدول المجاورة – وخاصة الأردن – في احتواء هذا التصعيد ومنع تحوله إلى بوابة جديدة لتهديد الأمن والاستقرار على جانبي الحدود.
الموقف الرسمي الأردني ظهر واضحاً في بيانات وزارة الخارجية الأردنية المتكررة التي طغى عليها الترحيب بأيّ تهدئة لإطلاق النار في السويداء، مؤكدة ضرورة ضبط النفس وحماية المدنيين واحترام سيادة سوريا ووحدتها.
وخلال مؤتمر صحفي عقده العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في برلين مع المستشار الألماني فريدريش ميرتس، شدد على أن استقرار سوريا يعد ركناً أساسياً لاستقرار المنطقة، مؤكداً دعم الأردن الكامل لسيادة سوريا ووحدة أراضيها، وموضحاً أن تقديم الدعم الدولي لسوريا ضرورة لتمكين السوريين من إعادة بناء دولتهم وضمان أمنها واستقرارها وازدهار جميع مكونات شعبها. هذه التصريحات تعكس بوضوح الثوابت الأردنية التي تحكم مقاربتها للملف السوري.
أبرز المخاطر التي تهدد الأردن من الجنوب السوري
وتؤكد عمان أن أبرز المخاطر التي تواجهها في الجنوب السوري تتمثل في احتمال عودة نشاط شبكات تهريب المخدرات والأسلحة التي طالما استهدفت الأراضي الأردنية قبل سقوط النظام السابق، إضافة إلى المخاوف من تعقيد ملف اللاجئين السوريين، وخطر التدخل الإسرائيلي المباشر أو غير المباشر في الجنوب.
أمن الجنوب السوري مرتبط بالأمن القومي الأردني
وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن الأردن يواصل العمل الدبلوماسي الهادئ بعيداً عن الأضواء للوساطة وتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة.
وفي تعليقه على موقف الأردن الرسمي من التطورات في الجنوب السوري، قال خبير الأمن الاستراتيجي عمر الرداد لمنصة سوريا 24 إنّ الجنوب السوري، ولا سيما محافظتي السويداء ودرعا، يمثلان جزءاً أساسياً من الأمن القومي الأردني، موضحاً أنّ ما يجري في هذه المنطقة كان مؤثراً في الأمن الأردني قبل سقوط نظام الأسد، واستمر تأثيره بعد تسلّم القيادة الجديدة في سوريا.
وأوضح الرداد أنّ هناك عوامل كثيرة تجعل هذه المنطقة حسّاسة بالنسبة للأردن، أبرزها التداخل الديموغرافي والعشائري، حيث توجد امتدادات عائلية وقبلية بين سكان درعا والسويداء وبين العشائر في شمال الأردن. وأضاف أنّ هذا ينطبق أيضاً على مكوّن الدروز الذين لهم أقارب داخل الأردن.
وأكد أنّه من منظور أمني، فإنّ منطقة السويداء تحظى بأهمية خاصة، مشيراً إلى أنّ الطائفة الدرزية هناك تنقسم إلى مرجعيات عدّة، اثنتان منها تؤيدان وحدة الدولة السورية، وهو ما يتوافق مع الموقف الأردني، بينما هناك تيار آخر بقيادة الشيخ حكمت الهجري له حسابات مختلفة.
ورأى الرداد أنّ المعلومات الأمنية الأردنية تشير إلى أنّ بعض المجموعات المرتبطة بالشيخ الهجري متهمة بالضلوع في عمليات تهريب المخدرات والأسلحة وتقديم غطاء لفلول النظام السابق، وهو ما يشكّل تهديداً مباشراً للأردن.
وأعلن أنّ الاشتباكات التي جرت مؤخراً على الحدود الشمالية مع شبكات تهريب المخدرات تؤكد خطورة هذه الظاهرة.
إسرائيل ومشاريع تقسيم سوريا: تهديد مباشر للأردن
وجدّد تأكيده على أنّ هناك أطرافاً داخل السويداء لا تؤمن بوحدة الدولة السورية وتتقاطع مع مشاريع إسرائيلية تهدف إلى إقامة كيان درزي في الجنوب، وهو ما ظهر – بحسب تعبيره – في بعض تصريحات الشيخ الهجري التي تتقاطع مع مواقف بنيامين نتنياهو.وأكد الرداد أنّ الأردن، إلى جانب روسيا وتركيا والسعودية، يضع تفكيك سوريا أو إقامة دويلات طائفية في الجنوب ضمن الخطوط الحمراء. وأضاف أنّ الأردن يتعامل مع هذه الملفات بهدوء عبر القنوات الأمنية والدبلوماسية بعيداً عن الإعلام، وهو ما سمح – بحسب قوله – بالتوصل مؤخراً إلى اتفاق وقف إطلاق النار في المنطقة دون انحياز لطرف ضد آخر.
وشدّد الخبير العسكري الأردني في ختام حديثه على أنّ موقف بلاده ثابت منذ سنوات: دعم وحدة سوريا واستقرارها، وضرورة وجود جيش ودولة قوية تحمي الحدود وتمنع تهريب المخدرات والسلاح، موضحاً أنّه رغم استمرار التهديدات الأمنية، فإنّ القيادة السورية الجديدة تبدي تعاوناً أكبر مع الأردن، وهو ما يأمل أن يتعزز في المرحلة المقبلة.
التحديات الثلاثة: التهريب، اللاجئون، والحضور الإسرائيلي
رؤية الرداد تتقاطع مع وجهة نظر الكاتب الصحفي منار رشواني في أنّ ما يجري في الجنوب السوري يؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي الأردني، مع إشارته إلى العامل الإسرائيلي المغذى من فواعل محلية على الأرض، والتي تتطلع لتحقيق أهداف تل أبيب في الهيمنة على الجنوب السوري.
وقال لمنصة سوريا 24 إنّ الاقتتال العنيف الذي اندلع في السويداء قبل أيام بين فصائل درزية محلية والقوات الحكومية، ثم بين هذه الفصائل وعشائر البدو، مع تدخل إسرائيلي بزعم حماية الدروز، لا يعيد فقط إحياء التهديدات والتحديات القادمة من سوريا والتي عانى منها الأردن لأكثر من عقد، بل يزيد عليها، لاسيما فيما يتعلق بالمخدرات واللجوء، وصولاً إلى الحضور الإسرائيلي على الجبهة الشمالية.
وأوضح رشواني أنّه من ناحية أمنية، تبدو منطقية تماماً خشية الأردن من أنّ إضعاف حضور الجيش السوري وقواه الأمنية في الجنوب، كما تسعى إسرائيل، قد يعني توفير البيئة لعودة تهريب المخدرات من سوريا، وقريباً من مستويات ما كان قائماً قبل سقوط الأسد، قادمة ربما عبر العراق.
وشدّ رشواني على أنّ ملف اللاجئين لا يقل خطورة، فبرغم أنّ المملكة حسمت أمرها بعدم استقبال لاجئين سوريين جدداً، وبرغم الهدوء الحالي الذي يفترض ألّا يدفع السوريين إلى مغادرة بلدهم، إلا أنّ استمرار عدم الاستقرار والعمليات العسكرية الإسرائيلية المتواصلة في الجنوب قد يكون سبباً مباشراً في عدم عودة مزيد من اللاجئين السوريين الموجودين في الأردن إلى وطنهم، لاسيما وأنّ غالبيتهم من درعا وريف دمشق.
ورأى رشواني أنّ هناك تحدياً ثالثاً يضاف إلى ما سبق يتمثل في تهديد الحضور الإسرائيلي على الجبهة الشمالية للأردن، وإنْ بشكل غير مباشر، عبر مجموعات مرتبطة بها. فبرغم أنّ الأردن وقع اتفاقية سلام مع إسرائيل منذ العام 1994، إلا أنّ حكومات اليمين الإسرائيلي، ولا سيما الحكومة الحالية، عملت مراراً على النقيض من مقتضيات السلام، بل ولا يتردد بعض أعضاء الحكومة الحالية في التعبير عن رغبتهم في زعزعة استقرار الأردن.
الدور الأردني كوسيط إقليمي وضرورة قبول هذا الدور
وأعاد رشواني التأكيد على أنّ الدور الأردني في تخفيف التوتر في الجنوب السوري قائم وفاعل، إذ إنّ الأردن – من الناحية النظرية على الأقل – يبدو الأكثر قدرة على القيام بهذا الدور، نظراً للعلاقات التاريخية التي تربطه بأهل السويداء منذ تأسيس المملكة، وأن عمان حريصة في الوقت ذاته على استقرار سوريا وضمان نهوضها من سنوات الحرب.
لكن هذا الدور – كما قال – يقتضي بداية القبول به من كل أطراف النزاع والتوتر. فبالنسبة لدمشق ولأغلبية أهل السويداء، من المفترض أنّ هذا الدور مرحّب به، متسائلاً في ختام حديثه عن مدى قبول الفصائل التابعة للشيخ حكمت الهجري؟ وهل ستسمح إسرائيل بمثل هذا الدور الذي قد يفسد عليها مخططها المعلن بتفكيك سوريا ولو بشكل غير رسمي إلى دولة طوائف؟
ثوابت السياسة الأردنية تجاه الجنوب السوري
هذا التلاقي بين التحليلين، الرسمي والخبراء، يعكس أن الأردن ينظر إلى الجنوب السوري بوصفه جزءاً من فضائه الأمني.
فالمملكة تضع ثلاثة ثوابت في تعاملها مع هذه الأزمة: دعم وحدة سوريا وسيادتها، رفض مشاريع التقسيم والتدخل الخارجي، والعمل الدبلوماسي المكثف بالتنسيق مع جميع الأطراف لتفادي تحوّل الجنوب إلى خاصرة رخوة تهدد أمنها وأمن المنطقة.