استضافت العاصمة الروسية موسكو، في 31 تموز/يوليو 2025، زيارة تاريخية للقيادة السورية الجديدة، وهي الأولى من نوعها منذ سقوط نظام الأسد السابق في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024.
هذه الخطوة الدبلوماسية، التي تأتي بعد أكثر من ثمانية أشهر على تحرير سوريا، تحمل دلالات استراتيجية عميقة تتجاوز كونها مجرد زيارة بروتوكولية.
روسيا ودورها في سوريا
منذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015، لعبت روسيا دوراً محورياً في دعم نظام الأسد السابق، مما قلب موازين القوى العسكرية لصالحه.
لكن هذا التدخل تسبب في معاناة كبيرة للسوريين، شملت التهجير القسري، جرائم حرب، وتدمير مدن.
ورغم هذا الإرث الثقيل، يفرض الواقع الجيوسياسي على سوريا الجديدة التعامل مع روسيا، ثاني أكبر قوة عسكرية عالمياً، في إطار “اضطرارية سياسية”.
وفي الأيام الأخيرة لنظام الأسد السابق، اتخذت روسيا موقفاً أكثر حذراً، فقد استمرت غاراتها حتى 7 كانون الأول/ديسمبر 2024، لكنها استهدفت مواقع بعيدة عن خطوط الاشتباك، مما يعكس نية موسكو تجنب التصعيد المباشر مع المعارضة.
كما أرسلت إشارات لأطراف دولية وإقليمية تفيد بعدم تدخلها في حال حدوث انتقال سياسي منظم يضمن مصالحها، خاصة قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس.
دلالات الزيارة السورية إلى موسكو
وفي هذا السياق، قال المختص بالشأن الروسي، ديمتري بريدحة في حديث لمنصة سوريا ٢٤: تعد زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو نقطة تحول في العلاقات الثنائية، حاملة رسائل رئيسية:
– إعادة صياغة العلاقات: أكد الشيباني على ضرورة مراجعة الاتفاقيات السابقة المبرمة في عهد نظام الأسد السابق، داعياً إلى شراكة متوازنة تحترم سيادة سوريا، إذ أن هذا الخطاب يعكس رغبة دمشق الجديدة في التخلص من التبعية التاريخية لروسيا.
– العدالة الانتقالية: في خطوة جريئة، طالب الشيباني روسيا بدعم مسار المحاسبة والعدالة الانتقالية، دون ذكر الأسد صراحة، وكانت رسالته واضحة: من ارتكب جرائم بحق السوريين يجب أن يُحاسب، ومن دعمهم يواجه اختباراً أخلاقياً واستراتيجياً، وبالتالي فإن هذا يضع روسيا أمام خيار بين دعم المصالحة الوطنية أو التمسك بإرثها المثير للجدل.
– التوازن الجيوسياسي: تسعى سوريا الجديدة إلى تحقيق توازن في علاقاتها الدولية، بما يشمل روسيا، الولايات المتحدة، والدول العربية، لتثبت استقلاليتها وقدرتها على التعامل مع الجميع.
– دور روسيا في إعادة الإعمار: أبدت روسيا استعداداً لدعم إعادة إعمار سوريا، خاصة في البنية التحتية والطاقة، لكن نجاح هذا الدور يتطلب تغييراً في الصورة الذهنية لروسيا أمام السوريين، من داعم للنظام إلى شريك في التعافي.
روسيا وسوريا ومرحلة بناء الثقة بين الطرفين
و،قال بريدجة “تعيش العلاقات الروسية-السورية مرحلة جديدة بعد سقوط نظام الأسد، كما شهدت السياسة الروسية تحولاً ملحوظاً، تمثّل بزيارة وزيرة الخارجية السوري الجديد أسعد الشيباني إلى موسكو، والتي عبّرت عن اعتراف روسي بشرعية الحكومة الانتقالية، واستعداد لبناء علاقات ثنائية على أسس جديدة”.
واعتبر بريدحة أن بناء الثقة مع الشعب السوري يبقى مرهوناً بتغيّر ملموس في الموقف الروسي، وإثبات أن دعمها السابق للنظام لم يكن تأييداً للقمع، في حين تسعى سوريا إلى أن تكون دولة مستقلة ومحورية في المنطقة، ضمن التحولات الجيوسياسية الجديدة، بما في ذلك التقارب العربي الإسرائيلي، ما يستدعي توازناً دقيقاً في علاقاتها مع القوى الكبرى، خصوصاً بين روسيا والولايات المتحدة، وفق قوله.
وتأتي الزيارة في مرحلة ضرورية لإثبات قدرة سوريا على التعامل مع جميع الأطراف، لكن هناك تحذيرات من الثقة المفرطة بروسيا، واقتراحات باستخدامها كورقة سياسية لتحقيق مكاسب دبلوماسية.
في المقابل، يبرز الحديث عن دور روسي محتمل كوسيط بين سوريا وإسرائيل، حيث يمكن لموسكو تعزيز نفوذها الإقليمي عبر دعم تسويات في الجولان والجنوب السوري، خاصة مع خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع الذي يركز على الاستقرار، إضافة إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه روسيا في كبح جماح إسرائيل ومحاولاتها المستمرة في التوغل وزعزعة الاستقرار في الداخل السوري.
من جهته، قال المحلل السياسي علي تمي في حديث لمنصة سوريا ٢٤، الزيارة من حيث التوقيت مهمة جداً، فدمشق بحاجة إلى إعادة التوازن الاستراتيجي في العلاقات بين الدول العظمى وهذا نهج يتبعه أيضاً كل من تركيا والسعودية.
وفي رد على أن هناك من يرى أن الزيارة إلى روسيا مهمة للحصول على نوع من التوازن وإثبات أن الإدارة الجديدة في سوريا ستعمل مع الجميع، أجاب: “هذا المنطق صحيح وخاصة بعد التدخلات الإسرائيلية في السويداء ودون إعطاء أي اعتبار لسيادة الدول وتدخل تل ابيب في الشؤون الداخلية لسوريا، وبالتالي من الضروري فتح قنوات الاتصال مع موسكو كونها عضو دائم في مجلس الأمن ولديها قوة دفاعية خارقة ولهذا فتح قنوات الاتصال مع موسكو هو أمر لا مفر منه”.
وعن رأيه في أن هناك من يرى أنه لا يمكن الثقة في الروس لكن يمكن استخدامهم كورقة سياسية واستغلال ذلك للحصول على مكاسب سياسية، اعتبر تمي أن: “دمشق لا تستطيع وضع كل بيضاتها في سلة الغرب، فهم بالعادة لا يحترمون سيادة الدول رغم أن دمشق فتحت أبوابها للجميع وأخذت بنصائحهم بعين الاعتبار وتجاوزت الكثير من التحديات وقبلت بالجلوس مع الوفد الإسرائيلي في العاصمة الأذرية باكو، لكن تبين أنهم يتبعون سياسة العصى والجزرة وهذا ما دفع دمشق بالتوجه شرقاً”.
ووسط كل ذلك، تمثل زيارة الشيباني إلى موسكو نقطة انطلاق لإعادة تعريف العلاقات السورية الروسية على أسس السيادة والعدالة، كما أنها زيارة تؤكد على أن سوريا بحاجة روسيا والعكس صحيح.
وتبقى سوريا الجديدة أمام فرصة لبناء شراكات متوازنة، لكن نجاحها يعتمد على شجاعة قيادتها وتعاون الخارج، في حين أن السوريين مصممون اليوم على المضي نحو مستقبل يقوم على العدالة، ومن يدعمهم اليوم سيكون شريكاً في نهضتهم.