في زقاق ضيق بمنطقة جسرين في الغوطة الشرقية، تعيش ورشة قديمة على أنين الخشب ورائحة الغراء، حيث يواصل الرجل الخمسيني أبو سعيد غنون رحلته الطويلة مع فن الموزاييك. ورث الرجل هذه المهنة عن عمه منذ عام 1985، وحوّل الورشة إلى مساحة تجمع بين الذاكرة الدمشقية وأحلام جيل جديد يسعى لإحياء تراث آخذ بالاندثار.
يقول أبو سعيد وهو يتأمل أدواته البسيطة: “تعلمت هذه الصنعة من أبي، وكنت شابًا صغيرًا لا أعرف أنني سأقضي عمري بين الخشب والنقوش. اليوم أشعر أنني أحمل أمانة كبيرة، فالموزاييك ليس مجرد مهنة، بل هو قطعة من روح دمشق”.
شاب يبحث عن معنى جديد
بين جدران هذه الورشة، وجد الشاب محمد أبو شاهين طريقه نحو الإبداع. فالحرب التي قلبت حياته رأسًا على عقب، وحرمته من دراسته في درعا، دفعته للعمل في مهن متفرقة داخل سوريا وخارجها. لكن في عام 2019، بعد عودته من تركيا، دخل صدفة إلى ورشة “أبو سعيد”، ليكتشف أن الموزاييك قادر على منحه معنى جديدًا للحياة.
يروي محمد: “لم يكن هذا الفن يومًا في حساباتي، لكن حين أمسكت أول قطعة خشب شعرت أنني أستعيد ما فقدته. كل نقشة أنجزها تجعلني أولد من جديد”.
بين التراث والتجديد
يعتمد فن الموزاييك الدمشقي على أخشاب الجوز والسرو والزان والصنوبر، ويحتاج إلى صبر طويل ودقة متناهية، إضافة إلى لمسة إبداعية تفتح المجال أمام تصاميم جديدة. أبو سعيد، بخبرته الممتدة منذ أربعة عقود، علّم تلميذه الصبر على تفاصيل الخشب، بينما أخذ محمد على عاتقه مهمة التجديد وكسر النمطية.
معًا، عملا على ابتكار نقوش لم تُطرح منذ عقود، في محاولة لإعادة هذا الفن إلى الحياة. ورغم أن الأسواق ما زالت تحتضن بعض القطع الصغيرة كهدايا وصناديق خشبية مزخرفة، إلا أن صناعة الأثاث الكبير من الموزاييك تكاد تختفي، ما يجعل عملهما أقرب إلى مهمة إنقاذ لتراث مهدد بالاندثار. يؤكد أبو سعيد أنه بالكاد يوجد أربعة أو خمسة حرفيين يتقنون فن الموزاييك الدمشقي.
صعوبات وتحديات
الطريق لم يكن سهلًا، فضعف الإقبال على الموزاييك بسبب الأزمة الاقتصادية وغياب السياحة جعل الطلب محدودًا للغاية. يوضح أبو سعيد أن “المهنة كانت تعتمد على السياح الأجانب بشكل أساسي، أما اليوم فالناس بالكاد يؤمنون احتياجاتهم اليومية”.
لكن محمد رفض الاستسلام، فإلى جانب تعلم الصناعة بدأ بترميم القطع القديمة وإعادة الحياة إليها، ليمنحها قيمة إضافية. بالنسبة له، الموزاييك يشبه الذهب: كلما مرّ عليه الزمن، ازداد جمالًا وقيمة.
ورشة الأمل
اليوم، يقيم محمد في جرمانا مع أسرته الصغيرة، بينما يواصل أبو سعيد عمله في جسرين، محاطًا بذكريات والده وأصوات تلاميذه الذين مروا من هنا. الورشة ليست مجرد مكان للعمل، بل فضاء يلتقي فيه الماضي بالحاضر، والخبرة بالشغف، لتصنع معًا قصة إنسانية عن التمسك بالحياة رغم كل ما خلّفته الحرب.
يختم أبو سعيد قائلًا: “كل قطعة موزاييك تحمل حكاية، وأتمنى أن يجد هذا الفن من يحمله بعدنا، فدمشق لا تكتمل من دون شرقياتها”.
أما محمد، فيبتسم بثقة وهو يتأمل قطعة جديدة بين يديه: “أردت أن أثبت أن شباب سوريا قادرون على الإبداع مهما كانت الصعاب”.
بين الشيخوخة والشباب، تبقى ورشة جسرين شاهدة على أن الموزاييك ليس مجرد حرفة خشبية، بل رسالة أمل وصمود، وجسر يربط ذاكرة الأجداد بأحلام الأبناء.