مع حلول الموسم الدراسي الجديد، تتجدد معاناة الأسر في مدينة طرطوس وريفها، حيث تحوّلت تكاليف التعليم من مجرد استعدادات روتينية إلى عبء مالي ثقيل يهدد استمرارية تعليم أبنائهم، في ظل غياب شبه كامل للدعم الحكومي أو المنظمات الإنسانية الفاعلة.
وأشار بعض الأهالي في حديثهم لمنصة سوريا 24 إلى أن الأعباء المالية المرتبطة بالمستلزمات المدرسية تجاوزت قدرة كثير من الأسر على التحمل، ما أدى في بعض الحالات إلى التفكير الجاد في سحب الطلاب من المدارس.
الابتدائي بـ 300 ألف والإعدادي نصف مليون
يقول عبد الله أحمد، وهو من سكان ريف طرطوس، في حديث لمنصة سوريا 24، إن التحضير للموسم الدراسي هذا العام كان أشبه بـ”كارثة مالية” على الأسر المتوسطة والفقيرة.
وأوضح: “تكاليف الطالب في المرحلة الابتدائية وصلت إلى حوالي 300 ألف ليرة سورية، وهذا الرقم لا يشمل الكتب أو الرسوم المدرسية، بل فقط اللباس المدرسي والشنطة والقرطاسية”.
وتابع: “أما في المرحلة الإعدادية، فالرقم يقفز إلى 500 ألف ليرة تقريباً. وبالنسبة للثانوية، فالأمر أصعب، لأنه يضاف إليه مصاريف المواصلات، والدروس الخصوصية، وأحياناً حتى الأدوات التقنية مثل الحاسوب أو الطابعة”.
وزاد بالقول: “أكثر من 70% من الأهالي هنا في طرطوس وريفها يضطرون للاقتراض من أقاربهم أو من تجار الزيتون استعداداً لموسم قطف الزيتون القادم، على أمل أن يسددوا الديون من عائداته. لكن ماذا لو تأخر الموسم؟ أو قلّ الإنتاج؟ نحن نعيش على حافة الهاوية”.
ويشير عبد الله إلى أن بعض العائلات بدأت تعتمد على المساعدات العابرة أو على الحوالات من الأقارب في الخارج: “من لديه قريب في الخارج، يرسل له بعض المال لمساعدته، لكن حتى هذه الحالات باتت نادرة، نظراً لتدهور الأوضاع الاقتصادية على الجميع، أما المنظمات، فنشاطها لا يزال بعيداً كل البعد عن الاحتياجات الفعلية للسكان، ولا يغطي سوى نسبة ضئيلة لا تتجاوز 2% من الأسر المحتاجة حقاً”.
التعليم صار ترفاً
أما محمد منلا، فيروي في حديث لمنصة سوريا 24، معاناته كأب لشابين في المرحلة الإعدادية والثانوية، حيث لم يعد بإمكانه تحمل تكاليف الدراسة، خاصة مع تدني مستوى التحصيل الدراسي لأبنائه: “ابني الأكبر كان في الصف التاسع، وابني الثاني في الأول ثانوي. تحصيلهم الدراسي متوسط إلى ضعيف، والمصاريف عالية… فقررت أني أوقفهم عن المدرسة وأبحث لهم عن شغل أو مصلحة صغيرة. التعليم صار رفاهية، وما بقدر أضيع فلوسي على شهادة ما رح تطعمهم رغيف خبز”.
ويوضح محمد أن قراره لم يكن سهلاً، لكنه فرضته الظروف: “أنا لا أرغب في حرمان أبنائي من حقهم في التعليم، لكن ماذا عساي أفعل؟ إذا سمحت لهم بالاستمرار في الدراسة، فسأضطر إلى الاقتراض، وربما بيع بعض مقتنيات المنزل، والوقوع في دوامة الديون التي يصعب الخروج منها. والأهم من ذلك، أنه إذا كان مستواهم الدراسي ضعيفاً، ولا يُرجح أن يُكملوا التعليم الجامعي، فما الجدوى من إنفاق السنوات والمال دون عائد ملموس؟ الأولى بهم أن يكتسبوا حرفة أو يلتحقوا بعمل يعينهم على الحياة”.
ويؤكد أن هذه الظاهرة ليست فردية، بل تنتشر بين كثير من الأسر في الأحياء الشعبية وريف طرطوس: “هناك عدد كبير من الطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و15 عاماً قد تركوا مقاعد الدراسة، والتحقوا بالعمل في ورشات أو محال تجارية. وقد بات التعليم الأساسي مجرد مسمى شكلي لا يُترجم واقعاً ملموساً على الأرض، فمن لا يملك سنداً اقتصادياً قوياً، يُجبر على الانحناء أمام ضغوط الحياة والبحث عن لقمة العيش بدلاً من القلم والكتاب”.
أزمة متفاقمة وغياب للحلول
ويجمع عبد الله ومحمد على أن غياب أي خطة حكومية لدعم الأسر في تكاليف التعليم، وتقاعس المنظمات عن تقديم مساعدات حقيقية ومباشرة، يفاقم الأزمة ويدفع بالمزيد من الأطفال نحو الانقطاع المبكر عن الدراسة، ما يهدد بجيل ضائع ومزيد من البطالة والفقر في المستقبل.
وينهي عبد الله حديثه بدعوة واضحة ومباشرة: “نحتاج إلى حلول جذرية، لا إلى وعود مكررة. نطالب بدعم فعلي يشمل اللباس المدرسي، والحقائب، والكتب، ولو كان هذا الدعم رمزياً، فالتعليم حق أساسي من حقوق الإنسان، وليس سلعة تُشترى أو تُباع”.
وفي ظل تدهور القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار الجنوني، يتحول الموسم الدراسي من فرحة إلى كابوس، وتتحول المدارس من مؤسسات تعليمية إلى بوابات للديون والفقر.