في صباح ربيعي من عام 2025، عاد عبد السلام عليوي إلى قريته باشكوي في شمال حلب بعد أحد عشر عامًا من التهجير القسري.
وقف أمام منزله المهدّم، وركع ساجدًا على ترابه، يشكر الله على نجاته. لكن السكون الذي أحاط بالمكان كان أقسى من ضجيج الحرب: أشجار قُطعت، وحقول ذبلت، ومدرسة تحوّلت إلى ركام، ومسجد بلا روح.
باشكوي، التي كانت يومًا قرية نابضة بالحياة، بدت له أرضًا منسية، لا ماء فيها ولا قمح، ولا أثر لصوت طفل أو صيحة مؤذن.
منذ عام 2012، أصبحت باشكوي عقدة استراتيجية شمال حلب، لقربها من طريق الكاستيلو ومحاور عندان وحيان وحريتان، فضلًا عن موقعها الرابط بين بلدتي نبل والزهراء ومدينة حلب. هذا الموقع حوّلها إلى خط تماس دائم، وساحة معارك دامية استنزفت أرواح أبنائها ودمّرت عمرانها.
في شباط 2015، شنّت قوات النظام هجومًا من محور حندرات، وسيطرت على القرية، ثم تناوبت عليها فصائل المعارضة، وسط معارك طاحنة تبادلت خلالها السيطرة على الأرض.
تغيّرت موازين القوى مع كسر الحصار عن نبل والزهراء في شباط 2016، ليُرسَّخ الوجود العسكري للنظام في محيط باشكوي حتى سقوطه في كانون الأول الماضي.
بعد التحرير، شكّل أبناء القرية فريقًا تطوعيًا لإدارة شؤونها، برئاسة خالد الجغل، الذي يقول: “باشكوي دفعت ثمن موقعها، وقدّم أهلها عشرات الشهداء. اليوم نواجه معركة مختلفة: الألغام، والدمار، والتهميش”.
ما زالت مئات الألغام مزروعة في الحقول والمنازل، تُشكل خطرًا دائمًا يمنع الأهالي من العودة الآمنة أو استصلاح الأرض.
فالطرقات مدمّرة، والسواتر الترابية تعزل القرية. الطريق الرئيسي جُرّف، وأصبح غير صالح في فصل المطر.
بعد تسعة أشهر من الانتظار، بدأت فرق الدفاع المدني بإزالة بعض الركام، وتمكّنت وحدات الهندسة من تفكيك عدد من الألغام، لكن الخطر ما زال قائمًا، والحياة ما تزال معلّقة بين الركام.
يصف الجغل الوضع الخدمي بأنه “تحت الصفر”، إذ لا ماء، لا كهرباء، لا فرن، ولا مركز طبي.
المياه تُشترى، وصهريج واحد قد يصل سعره إلى 300 ألف ليرة، وهو عبء لا تحتمله معظم العائلات.
المدرسة الوحيدة، التي بُنيت عام 1968، تحوّلت خلال الحرب إلى ثكنة عسكرية، وتعرّضت للنهب والتخريب، ولا تزال مغلقة رغم محاولات الأهالي لترميمها.
يقول عبد السلام لمنصة سوريا 24: “رجعت إلى بيتي، فوجدت الدمار أوسع من كل ما تخيلته، لا شجرة، لا مدرسة، لا مسجد، ولا حتى خبز.. نحن أحياء لكن بلا حياة”.
ويضيف حسن العسلة، وهو من سكان القرية: “باشكوي كانت خط جبهة لأربع سنوات، اليوم، هي قرية منسية، مدمّرة ومعزولة، والماء فيها أغلى من القمح”.
قبل الحرب، بلغ عدد سكان باشكوي نحو سبعة آلاف نسمة، وفقًا للجغل.
أما اليوم، فلم تعد إليها سوى مئة عائلة فقط، أما المنازل، فمن أصل 750 منزلًا، هناك 400 مدمّرة كليًا، و200 بحاجة إلى ترميم، و50 فقط صالحة للسكن.
الزراعة، التي كانت المورد الرئيسي للأهالي، توقفت، فالأرض الخصبة تحوّلت إلى حقل ألغام، رغم أن القرية كانت تُستخدم كموقع للتجارب الزراعية من قبل منظمة “إيكاردا”.
الجغل يختصر المشهد بقوله: “باشكوي ليست مجرد قرية، بل عقدة مواصلات تختصر 25 كيلومترًا للقادمين من الريف الغربي إلى المدينة الصناعية في حلب”.
ومع اقتراب الشتاء، يخشى الجغل وسكان القرية من الحصار من جديد، حيث يطالبون بشكل فوري بـ”نزع الألغام، تعبيد الطريق، تأهيل شبكة المياه، إنشاء فرن، ترميم المدرسة، وتأمين نقطة طبية”.
منصة “سوريا 24” تواصلت مع عدد من المسؤولين عن الملف الخدمي في محافظة حلب، وأوضح بعضهم أن باشكوي مدرجة ضمن خطط إعادة التأهيل، لكن ضعف الموارد يبقى العائق الأكبر أمام تحقيق أي تقدم فعلي.
رغم كل شيء، لم يفقد سكان باشكوي إرادتهم في البقاء، حيث يتمسك من عاد إليها بالأرض، ويحاولون النهوض من تحت الركام، وينتظرون من يمدّ إليهم يد العون.
كما يقول أحدهم لمراسل منصة سوريا 24: “الوضع كارثي، لكن الأرض لم تمت.. نحتاج فقط إلى ما يُعيننا على البقاء، لنزرع من جديد، ونبدأ الحياة من أول السطر”.
ويختم الجغل حديثه بكلمات تمزج الأمل بالإصرار: “لن نغادر أرضنا، مهما كلّف الأمر.. لكننا بحاجة لمن يقف معنا، حتى تعود باشكوي كما كانت… حية”.