في سياق متسارع من العمليات الأمنية التي تشهدها مناطق متفرقة من سوريا، أعلنت وزارة الداخلية السورية عن سلسلة اعتقالات طالت شخصيات بارزة يُعتقد أنها مرتبطة بـ”فلول النظام البائد”، في خطوة وصفها مسؤولون بأنها “ضربة قوية” لمحاولات زرع الفتنة وزعزعة الاستقرار، لا سيما في المناطق الساحلية.
وتزامنت هذه العمليات مع تصريحات رسمية تؤكد التزام الدولة بتحقيق العدالة الانتقالية، في حين يرى مراقبون أن الوضع الأمني لا يزال معقدًا، وأن مسار العدالة يحتاج إلى منهجية أوسع من مجرد الاعتقالات الفردية.
اعتقالات مكثفة: من طرطوس إلى درعا وحماة
في أحدث تطور، أعلنت وزارة الداخلية، اليوم الأحد 19 أكتوبر، عن إلقاء القبض على المدعو علي فلارة، المسؤول عن خلية إرهابية مرتبطة بـ”فلول النظام البائد”، في محافظة طرطوس.
وبحسب وزارة الداخلية السورية، فإن فلارة كان يخطط لتنفيذ عمليات إرهابية تستهدف عناصر الأمن الداخلي وقوات الدفاع، بالتنسيق مع المدعو غياث دلة، كما تورط في انتهاكات جسيمة خلال عمله السابق في “فرع فلسطين”، شملت الخطف والابتزاز والقتل.
وأشار البيان إلى أن التحقيقات الأولية كشفت عن وجود مخازن أسلحة وذخائر مُعدة مسبقًا في أحراش منطقة دريكيش، كانت مخصصة لاستهداف مواقع أمنية. وقد أُحيل فلارة إلى القضاء المختص لاستكمال الإجراءات القانونية.
وتأتي هذه العملية في سياق سلسلة اعتقالات مماثلة خلال الأسابيع الماضية، شملت:
– نمير الأسد وعصابته الإرهابية.
– قصي وجيه إبراهيم، قائد “كتيبة الجبل” سابقاً، الذي اعتُقل في اللاذقية بعد عملية رصد دقيقة، وثبت تورطه في ارتكاب جرائم ضد المدنيين، وارتباطه الوثيق بالمدعو حافظ منذر الأسد.
– أحمد عثمان عويض في درعا، المسؤول السابق عن حاجز أمني تابع للأمن العسكري، والمدان بارتكاب انتهاكات أدت إلى إعدام مدنيين في سجن صيدنايا.
– بلال وسيد الدين محرز في حماة، والمعروفان بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك التمثيل بجثث الضحايا ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.
– سامر أديب عمران، رئيس مفرزة الأمن العسكري السابق في درعا، المتورط في عمليات اغتيال وتهريب مخدرات وتجسس.
– وسيم الأسد، ابن عم رأس النظام السابق، بشار الأسد، وأحد أبرز تجار المخدرات في عهد النظام السابق، الذي تم القبض عليه في كمين محكم في يونيو الماضي.
الداخلية: “أمن الوطن خط أحمر”
وفي تصريحات رسمية، أكد وزير الداخلية أنس خطاب، أن “إلقاء القبض على المجرم نمير الأسد وعصابته الإرهابية، وكذلك المجرم قصي وجيه إبراهيم، يشكّلان ضربة جديدة لمحاولات فلول النظام البائد زرع الفتنة بين أهلنا في الساحل”.
وأضاف: “لن نتَّخر جهدًا في ملاحقة كبار رموز الانتهاكات ضد الشعب السوري وإخضاعهم لمحاكمات عادلة تضمن تطبيق العدالة الانتقالية”.
كما شدد خطاب على أن اعتقال وسيم الأسد جاء “ضمن مساعٍ حثيثة لاعتقال رموز الإجرام في عهد الهارب بشار الذين عاثوا في الأرض فسادًا وتنكيلاً بالشعب السوري”.
من جهته، قال العميد عبد العزيز الأحمد، قائد الأمن الداخلي في اللاذقية، إن “يقظة كوادر وزارة الداخلية وحرفيّتهم العالية في المتابعة والرصد أفشلت مخططات آثمة، وأثبتت مجددًا أن أمن الوطن خطٌ أحمر”، حسب وزارة الداخلية السورية.
الاعتقالات مهمة لكنها غير كافية للعدالة الانتقالية
من جهتها، قالت يمن حلاق، الباحثة في الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في حديث لمنصة سوريا 24: “بالنسبة لهذه العمليات، فهي بالتأكيد مهمة جدًّا، ويجب أن تستمر لتستهدف جميع الفلول، سواء الموجودين على الساحل أو في المناطق الأخرى. ففي النهاية، لا مجال لتحقيق أي نوع من الاستقرار الأمني أو السلم الأهلي دون القبض على جميع هؤلاء المجرمين، لأنهم في النهاية يشكّلون خطرًا أمنيًّا كبيرًا على المجتمع”.
وأضافت حلاق: “أما بالنسبة لأهمية هذه العمليات على صعيد العدالة الانتقالية، فهي بلا شك مهمة للغاية. لكننا دائمًا نرى أن عمليات العدالة الانتقالية يجب أن تكون أكثر منهجية من هذا. نحن نعلم أن هناك لجانًا تعمل على هذا الموضوع، لكن ما أريد قوله هو أن العدالة الانتقالية تتجاوز مجرد القبض على مجرمين هنا وهناك بشكل فردي”.
وشرحت أن “العدالة الانتقالية تشمل عددًا من البنود الأساسية التي حدّثنا عنها سابقًا في الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقرير موسع، وتشمل: كشف الحقيقة، وجمع الوثائق، والعدالة الجنائية التي تقضي باعتقال المجرمين وتقديمهم إلى محاكم خاصة بالعدالة الانتقالية، إضافة إلى جبر الضرر وتعويض الضحايا”.
وشدّدت على أهمية الشفافية: “نحن مهتمون في مسار العدالة الانتقالية بمعرفة طبيعة التهم الموجّهة إليهم، والجرائم التي ارتكبوها، والأحكام الصادرة بحقهم. ونحن دائمًا نطالب بأن تكون هذه المحاكمات علنية، من منطلق تأكيد الشفافية، ومن منطلق أن يشعر الضحايا فعليًّا بأنهم نالوا حقوقهم”.
وبخصوص تقييم الوضع الأمني، قالت حلاق: “لا يمكننا أن نقيّمه فقط من خلال القبض على هؤلاء الأشخاص أو غيرهم هنا وهناك. هناك الكثير من المؤشرات التي تحدّد ما إذا كان الوضع الأمني في البلاد يتحسّن أم لا، ومن بينها تحقيق العدالة الانتقالية بشكل أكثر منهجية وشمولًا، مثل تراجع عمليات الخطف، مثلاً، أو تزايد حالات الأمان، كأن يتمكّن الطلاب في السويداء أو في مناطق مشابهة من الذهاب إلى جامعاتهم بأمان”.
وأضافت: “مشكلتنا الحالية أن الوضع الأمني في مناطق كثيرة لا يزال متوترًا جدًّا. لذلك، هناك العديد من المؤشرات التي تبيّن إن كان الوضع الأمني قد تحسّن أم لا. الموضوع لا يتوقف فقط على القبض على هؤلاء المجرمين. وبصراحة، ليس لدي إحصائيات، ولا أحب أن أُطلِق أحكامًا في مثل هذه الأمور دون بيانات دقيقة”.
فلول النظام في حالة احتضار
من جانبه، قال الكاتب والمحلل السياسي أحمد العربي، في حديث لمنصة سوريا 24: “إن فلول النظام البائد أصبحت في حالة احتضار، وفقدت حاضنتها الشعبية ضمن المكون العلوي السوري، وما القاء القبض على نمير الأسد وقصي إبراهيم وبعض العناصر معهم، وهم ممن أصبحوا مطلوبين للعدالة السورية لجرائمهم التي اقترفوها بحق الشعب السوري، إلا دليلًا على ذلك”.
وأضاف العربي: “لم يعد لهذه الفلول وغيرها أي حاضنة داخلية وضمن المكون العلوي، ولا حتى إقليمي ودولي. لذلك مصيرهم الاندثار والاعتقال والسجن والمحاسبة”.
وخلص إلى القول: “إن دولة الثورة السورية وشعبها يتقدّمان بثبات لتحقيق حياة أفضل، وتأمين فرص العيش الكريم، وتحقيق الحرية والعدالة لكل السوريين”.
بين الأمن والعدالة
رغم التقدم الملحوظ في العمليات الأمنية، يبقى السؤال الأهم: هل تكفي هذه الاعتقالات لبناء نظام عدالة حقيقي؟ الإجابة، وفق خبراء مثل يمن حلاق، تكمن في الانتقال من “الاعتقالات الفردية” إلى “منظومة عدالة شاملة”، تضمن المحاسبة العلنية، وكشف الحقيقة، وتعويض الضحايا، وتوحيد البلاد أمنيًا وسياسيًا.
وفي ظل غياب مؤشرات واضحة على تحسن الوضع الأمني في كل المناطق السورية، يبقى مسار العدالة الانتقالية مرهونًا بخطوات أكثر شمولًا وشفافية، لا مجرد عمليات أمنية منعزلة مهما كانت نتائجها مرضية في المدى القصير.