رغم الصعوبات المعيشية والظروف الاقتصادية القاسية التي تعيشها سوريا، استطاعت الشابة براءة قصّاب (30 عاماً) من مدينة حلب أن تحوّل شغفها بالفن إلى مساحة للإبداع والتعبير، وأن تترك بصمتها الخاصة في عالم الرسم والريزن والخط العربي، بعد أن أنجزت خلال ثلاث سنوات فقط أكثر من 3000 لوحة بيعت داخل سوريا وخارجها.
تقول براءة في حديثها لـ”سوريا 24“: “منذ طفولتي كنت أجد نفسي في الفن، وكنت أكافئ نفسي بعد كل واجب مدرسي بساعة رسم، كأن الألوان كانت تستعيد أنفاسي بعد صخب الدراسة”. تلك الساعة الصغيرة، كما تصفها، كانت الشرارة الأولى التي أطلقت رحلة فنية غيّرت مسار حياتها وجعلتها أكثر شاعرية ودفئاً.
ومع دخولها المرحلة الثانوية، وضعت فرشاتها جانباً مؤقتاً لتتابع طريقها الأكاديمي، فحصلت على مجموعٍ مميز أهلها لدخول كلية الهندسة المعمارية، وهو اختصاص جمع بين الحسّ الفني والدقة المعمارية.
تقول براءة: “كانت دراستي للهندسة امتداداً طبيعياً لفني، إذ منحتني رؤية جديدة أدمج فيها الفن بالعلم”. وقد تميزت خلال دراستها الجامعية بلمسة فنية خاصة جعلت أعمالها محط إعجاب زملائها وأساتذتها، حتى أن أحد أساتذتها في مادة الرسم الحر قال لها ذات مرة: “أنت مشروع فنانة”، واقتنى إحدى لوحاتها بنفسه، فكانت تلك أول شهادة فنية حقيقية في مسيرتها.
بعد التخرج، اضطرت براءة إلى الابتعاد مؤقتاً عن الرسم بسبب الظروف الاقتصادية وغلاء المواد الفنية، فاتجهت إلى التدريس لتأمين مصدر دخل، لكنها لم تجد في ذلك ذاتها. “كان الشغف يطرق قلبي كل يوم باحثاً عن طريق للعودة”، تقول براءة بابتسامة، مؤكدة أن القدر هيأ لها طريق الرجوع إلى الفن بمساعدة خطيبها، الذي كان الداعم الأكبر لها وشجعها على استعادة ألوانها من جديد.
بدأت رحلتها الفنية من جديد بأدوات بسيطة اشترتها من راتبها المتواضع كمدرّسة، ومع مرور الوقت بدأت تتلقى الطلبات الأولى على لوحاتها، رغم أن أسعارها في البداية كانت رمزية. وتضيف: “كانت قيمة اللوحة بالنسبة لي لا تُقاس بالمال، بل بالحب الذي وضعتُه فيها”.
في عام 2022، أقامت براءة أول معرض فني لها في صالة الخانجي بحلب، حيث عرضت مجموعة من أعمالها التي لاقت إعجاب الزوار والنقاد، وكانت تلك الانطلاقة الحقيقية لمسيرتها الفنية. ومنذ ذلك الحين، بدأت لوحاتها تجد طريقها إلى البيوت والمقاهي والعيادات في مختلف المحافظات السورية، ثم إلى عدد من الدول العربية والأجنبية.
تؤكد براءة أن طريقها لم يكن سهلاً، فقد واجهت صعوبات في تأمين المواد الأولية، لكن والدها كان حريصاً دائماً على مساعدتها لتجاوز تلك التحديات، فيما كان خطيبها يردد لها: “سيأتي يوم تشترين فيه أدوات من أفخم الأنواع”، وهو ما تحقق فعلاً لاحقاً، إذ باتت تستخدم اليوم أفضل أنواع المواد الفنية لضمان جودة أعمالها وثقة محبي فنها.
أما عن أسعار أعمالها، فتوضح براءة أن “اللوحة الواحدة تبدأ من 30 دولاراً، بينما تبدأ أسعار الساعات المصنوعة من الريزن من 50 دولاراً، وتختلف حسب القياس والتفاصيل والإضافات المطلوبة”، مشيرة إلى أن القيمة الحقيقية لكل عمل فني “تكمن في حب الناس له وتقديرهم للشغف الذي أضعه فيه”.
من أبرز أعمالها لوحات الريزن مع البلكسي، والساعات الفنية، إضافة إلى لوحات المعجون البارز مع ورق الذهب التي تشهد إقبالاً واسعاً في الوقت الحالي. وتختم براءة حديثها برسالة مؤثرة تقول فيها: “دع حياتك وإنجازاتك تحكي قصة نجاح تُلهم من حولك وتترك أثراً لا يُنسى”.
تختصر ابنة حلب مسيرتها التي جمعت بين الفن والإصرار، لتثبت أن الإبداع لا تحدّه الظروف، وأن اللون قادر دائماً على أن يزرع الأمل في أكثر المساحات رماداً.
تجسد تجربة براءة قصّاب نموذجاً مشرقاً لما يمكن أن تصنعه المشاريع الصغيرة حين تتحول إلى مساحة للتمكين والإبداع، خصوصاً بالنسبة لنساء سوريا اللواتي يواجهن تحديات اقتصادية واجتماعية متراكمة. فهذه المشاريع لا تفتح أبواب الرزق فحسب، بل تمنح المرأة فرصة لاكتشاف ذاتها وتوظيف طاقاتها في مجالات الفن والحرف والعمل الإنتاجي، لتصبح شريكاً حقيقياً في بناء المجتمع وإحياء الاقتصاد المحلي. ومن خلال قصص النجاح الفردية، كقصة براءة، تتجدد الثقة بقدرة المرأة السورية على تحويل الصعوبات إلى فرص، والرسم بالأمل فوق جدران الحياة مهما اشتدت الأزمات.












