أبو جمال… ذاكرة المهنة التي قاومت الحرب والنسيان

Facebook
WhatsApp
Telegram

خاص - سوريا 24 - منيرة بالوش

في زاوية ورشة متواضعة في مدينة التل بريف دمشق، تتردد أصوات ماكينة الخياطة القديمة التي يجلس خلفها محمد بدر الدين، المعروف بـ”أبي جمال”، منهمكًا في إعادة إحياء طقم قديم من المفروشات العربية. يثبت الرجل الخمسيني قطعة قماش جديدة اختارها بعناية، مضيفًا إليها لمسات عصرية تجعل من المجلس العربي القديم قطعة متجددة تنبض بالحياة، وكأنها لم تعش سنوات طويلة من الاستخدام.

من سقبا إلى التل… حرفةٌ تنتقل مع صاحبها وتتحدى الحرب

أبو جمال، ابن مدينة سقبا في الغوطة الشرقية، وُلد بين أصوات المناشير ورائحة الخشب، فالموبيليا بالنسبة إليه ليست مجرد مهنة أو مصدر رزق، بل إرث عائلي يمتد لثلاثة أجيال. يقول وهو يمسح بيده على قطعة الخشب أمامه: “هذه المهنة رافقتني منذ الصغر… أشعر وكأن بيني وبينها علاقة لا يمكن أن تنقطع، مهما تبدلت الظروف”.

لكن سنوات الحرب قلبت المشهد رأسًا على عقب. فقد كانت سقبا من أشهر مراكز صناعة المفروشات على مستوى سوريا، وتُعد مقصدًا للتجار والزبائن من مختلف المحافظات، قبل أن تتعرض خلال سنوات الحصار والاشتباكات لدمار واسع طال عشرات الورش والمعامل. كثير من الحرفيين اضطروا لإغلاق ورشهم، وبعضهم خرج من سوريا، لتخسر المدينة جزءًا كبيرًا من هويتها الصناعية.

نزوح قاس… وبداية جديدة فوق أنقاض ماضٍ ثقيل

في عام 2013، ومع احتدام القصف في الغوطة، اضطر أبو جمال إلى النزوح نحو مدينة التل، محاولًا إنقاذ ما استطاع من آلاته القديمة، قبل أن تُسرق معظم تجهيزاته التي تركها وراءه في سقبا. لم يصل من معمله سوى بضع أدوات، لكنه أصرّ على البدء من جديد داخل غرفة صغيرة استأجرها بصعوبة.

الإمكانيات المحدودة، وانقطاع الكهرباء، وارتفاع أسعار المواد الأولية، وقلة الطلب… كلها عوامل جعلت استمرار المهنة تحديًا يوميًا. ومع ذلك، لم يفكر أبو جمال يومًا في تركها، فهي، كما يقول، “الشيء الوحيد الذي لم أفقده في حياتي”.

فن التفاصيل الصغيرة… وصنعة تجمع بين الذوق والخبرة

بالنسبة إلى أبي جمال، صناعة المفروشات ليست مجرد قص وخياطة أو تركيب خشب. إنها فن يحتاج إلى صبر وذوق وإتقان التفاصيل الدقيقة: اختيار نوعية الإسفنج، تنسيق الألوان، شد الأقمشة، ومعالجة الزوايا اليدوية التي لا يمكن للآلات الحديثة أن تتقنها بالروح نفسها.

ورغم أن المهنة تفتقر اليوم إلى الآلات الحديثة والتقنيات المتطورة، إلا أنه يصر على الجودة، خصوصًا في اختيار الخشب، وعلى رأسه خشب الزان المعروف بمتانته وطول عمره.

تكاليف مقبولة… وربح بسيط

لا يخفي أبو جمال أن هامش الربح اليوم محدود، فالمواد الأساسية من أقمشة وإسفنج وخشب ارتفعت أسعارها بشكل كبير، بينما تراجع الطلب نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة. لكن حفاظه على سعر “معقول” لزبائنه هو ما يبقيه في دائرة العمل، ويمنحه فرصة الاستمرار في سوق يعاني الركود.

حرفة تتلاشى… وأخرى تورث

على الرغم من خروج عدد كبير من الحرفيين والتجار من سوريا، يشير أبو جمال إلى وجود “عودة جزئية” لبعض الورش في السنوات الأخيرة، وإن كانت محدودة وغير قادرة على استعادة ألق سقبا القديم.

أما هو، فيبدو أكثر تمسكًا بمهنته من أي وقت مضى، ويعمل اليوم على تعليم ابنه أسرار الصنعة ليحمل الخيط نفسه في المستقبل. يقول بابتسامة متحدية: “اشتغلت ثلاثين سنة في هذه المصلحة… واليوم صار الدور على ابني ليكمل المشوار”.

في ورشته البسيطة في التل، تستعيد قطع الأثاث القديمة حياة جديدة، بينما يستعيد أبو جمال جزءًا من ذكرياته كلما أمسك بقطعة خشب أو ثبت قماشًا جديدًا. إنها حرفة تحاول البقاء، ورجل يصرّ على أن يورثها قبل أن تنطفئ.

مقالات ذات صلة