على امتداد الطريق المؤدي إلى قبتان الجبل، تتبدّل ملامح الأرض تدريجيًا، من الخراب إلى الحركة، ومن الصمت الثقيل إلى أصوات تعيد الحياة إلى الذاكرة. تبدو البلدة هادئة في ظاهرها، لكنها تحمل في تفاصيلها ما هو أكبر من الركام: قصة صبر طويل، ونزوح قاس، وعودة لم تكن مضمونة، لكنها تحققت بعد سنوات من الغياب.
تقع قبتان الجبل في منطقة جبل سمعان غرب مدينة حلب، وكان سكانها يعتمدون على الزراعة، ويعيشون ضمن نسيج اجتماعي متماسك. غير أن موقعها الجغرافي حوّلها إلى ساحة مواجهة منذ السنوات الأولى للحرب، لتدخل في دوامة من القصف والنزوح والفراغ، بعدما أصبحت نقطة تماس متكررة بين فصائل المعارضة وقوات النظام.
في عام 2012، انسحب النظام تدريجيًا من البلدة، لتخضع لسيطرة فصائل المعارضة، وأبرزها حركة نور الدين الزنكي، ثم تحوّلت إلى منطقة شبه معزولة، تتعرض لقصف متكرر وتفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.
وفي 17 شباط 2020، استعادت قوات النظام والميليشيات الموالية لها، بدعم روسي، السيطرة على البلدة ضمن هجوم واسع على ريف حلب الغربي، لتدخل قبتان الجبل في خمس سنوات من الجمود والتهميش، وسط غياب شبه كامل للخدمات وتوقف الحياة فيها.
لكن في 27 تشرين الثاني 2024، تغيّر المشهد. انطلقت معركة “ردع العدوان” من محور الشيخ عقيل – قبتان الجبل، وشكّلت البلدة نقطة الانطلاق الأولى للعملية العسكرية الواسعة التي أطلقتها فصائل المعارضة لاستعادة مواقع استراتيجية في ريف حلب. وخلال 48 ساعة فقط، أعلنت غرفة العمليات سيطرتها الكاملة على البلدة، وسط انسحاب متسارع لقوات النظام من محيطها.
لم يكن التحرير مجرد نصر عسكري، بل لحظة مفصلية في تاريخ البلدة وسوريا عمومًا، إذ مثّل بداية مرحلة جديدة تستهدف استعادة المبادرة الميدانية، والتقدم نحو مراكز القرار، وكسر قبضة النظام.
كما شكّل الحدث منعطفًا في حياة من هجّرتهم الحرب، إذ بدأت قوافل العودة تتوالى رغم غياب البنى التحتية ودمار المنازل. عاد الناس إلى بيوتهم، ولو بلا أبواب أو نوافذ، فقط لأن الأرض أصبحت ممكنة، والبيت بات قريبًا.
يقول جمعة طاحوش، أحد العائدين، لموقع “سوريا 24”: “لم أتوقع أن أعود. نمنا في بيت بلا ماء أو كهرباء أو سقف، لكننا عدنا، وهذا يكفي”. ويضيف: “الحنين أقوى من الخوف، والعودة كانت حلمًا تحقق”.
أما باسم إبراهيم زمة، فيتحدث عن اللقاءات التي عادت بعد سنوات من التشتت، ويقول: “كنا موزّعين بين المخيمات والبلدات، لا نلتقي إلا صدفة. اليوم نلتقي كل مساء، نستعيد الروابط، ونحاول بناء ما هدمته الحرب”.
ورغم مرور عام على التحرير، ما تزال التحديات قائمة. فالبنية التحتية في حالة متردية، الكهرباء غائبة تقريبًا، والمياه تعتمد على الآبار والصهاريج، فيما لا توجد شبكة صرف صحي فعالة.
مدرسة واحدة فقط ما تزال تعمل، بكادر تطوعي محدود، ويُفتقر إلى مركز صحي يلبي احتياجات السكان، ما يدفعهم إلى التنقل لمسافات طويلة طلبًا للعلاج، خصوصًا في حالات الطوارئ.
كما تعاني الزراعة، عماد الاقتصاد المحلي، من مشكلات متعددة، منها تلوث التربة، وغياب الدعم الفني والمالي، ونقص المستلزمات الزراعية الأساسية.
ورغم كل ذلك، يتمسك السكان بما تحقق، ويرون في العودة إلى الأرض خطوة أولى نحو إعادة البناء، ويعبّر كثيرون عن حاجتهم إلى برامج تنمية حقيقية لا إلى مساعدات موسمية.
يقول أحد وجهاء البلدة: “نحن لا نطلب المستحيل، بل نريد شراكة تنموية تحترم كرامتنا، وتمنحنا القدرة على العيش في أرضنا بسلام، دون خوف أو عوز”.
لقد غيّرت معركة “ردع العدوان” مسار قبتان الجبل، وكانت بوابة لتحول ميداني كبير، لكنها لم تكن نهاية الطريق، بل بدايته. فالمعركة اليوم ليست بالسلاح، بل معركة بقاء واستقرار وإعمار.
تبدو البلدة بعد عام من التحرير وكأنها تنهض من تحت الركام ببطء ولكن بثبات، وتقول للعالم إنها قادرة على الحياة، لأن من فيها قرروا ألا تنتهي حكايتهم في خيام النزوح، بل تُروى من جديد، من قلب الأرض التي صمدت.









