لم تكن معرة النعمان ضمن محور عملية “ردع العدوان”، لكن مهجري المدينة في مخيمات الشمال وقراه وبلداته كانوا يتابعون أخبار العملية عن كثب، وعيونهم شاخصة إلى السماء، وأكفهم مرفوعة بالدعاء، يلتمسون من الله عودة آمنة إلى ديارهم.
العملية التي بدأت من محور الشيخ عقيل – قبتان الجبل في ريف حلب في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، توالت معها أخبار سقوط النظام في عدة قرى وبلدات في ريف حلب، وكانت المفاجأة السارة لأهالي مدينة أبي العلاء بوصول الثوار إلى تخوم مدينتهم صباح يوم الثلاثين من الشهر ذاته.
انهارت دفاعات النظام في المدينة، وانسحبت قواته منها، وبقيت بعض المجموعات الصغيرة التي تحصنت داخل المدينة صبيحة ذاك اليوم، وجرى التعامل معها من قبل مقاتلي المعارضة، ليعلن أبناء المعرة تحرير مدينتهم وسقوط نظام الأسد فيها، بالتزامن مع استمرار تقدم جحافل الثوار نحو معاقل النظام في المدن السورية، وصولا إلى العاصمة دمشق.
دخول القوات المعارضة وتراجع قوات النظام
وفق روايات محلية، انهارت خطوط قوات النظام المنتشرة على أطراف المدينة بعد بدء الهجوم، رغم تمركز آليات عسكرية ودبابات. ويقول السكان إن طلائع مقاتلي العملية تقدمت نحو المعرة دون مواجهات طويلة، بعد انسحاب القوات الحكومية من مواقعها.
يؤكد أبناء المدينة أن أبا الفوز وجماعته كانوا من أوائل من دخلوا المعرة بعد التحرير، وخلال ساعات أعقب الدخول، رُفع الأذان من الجامع الكبير للمرة الأولى منذ سنوات، في مشهد وثقته مقاطع مصورة تداولها ناشطون على نطاق واسع في حينه.
معرة النعمان وتوثيق لعذابات أهلها
يسترجع الصحفي عمر البم ذكريات يوم تحرير مدينته بوصفه حدثا بالغ الأهمية بالنسبة له ولعائلته ولأبناء المدينة، مشيرا إلى أن تحرير المدينة شكل منعطفا للسكان بعد سنوات من التهجير.
ويستذكر البم مشهد دبابات قوات النظام على مداخل المدينة، ويقول: “رأيت أكثر من خمسين دبابة لقوات النظام الساقط”، ويضيف: “كنت شاهدا على اندحار قواته على وقع ضربات مقاتلي المعارضة”.
يبتسم بعد أن يتنهد قليلا، ثم يتابع: “كنت أصور فيديو للمدينة… كان حدثا مفصليا في حياتي… كان شعوري لا يوصف، وفرحتي لا يمكن أن أمنحها لأحد”.
البم الذي دمر نظام الأسد وميليشياته منزله، وحاول تدمير المدينة بكاملها، وعاث خرابا بكل ما يتعلق بذكريات سكانها، يقول: “هل تعلم أن مدينة المعرة هي الوحيدة التي هُجر جميع سكانها منها والبالغ عددهم نحو مئتي ألف نسمة؟”، ويضيف مسترسلا: “مع الأسف، لقد دمر كل شيء… لكن هيهات ألا تعود الديار إلى أهلها… دمروا منازلنا، وسنعود لبنائها”.
ويتحدث عن عذابات مهجري المعرة في مخيمات الشمال السوري، موثقا وفاة العشرات من أهلها حزنا وكمدا على تهجيرهم من المدينة، ويقول: “هل تعلم أنه بعد عام ونصف من التهجير، وثقنا وفاة 400 شخص من أبناء المعرة بشكل مفاجئ؟ سكتات قلبية… توقف مفاجئ للقلب… احتشاء الذاكرة بمشاهد القتل والدمار والتهجير… نعم، توقف قلبهم عن النبض، وماتوا كمدا وحزنا على فراق مدينتهم”.
بعد استعراضه لآلام التهجير وعذاباته، يتنهد قليلا ليستعيد ذكريات يوم التحرير، وكأنه وُلد من جديد، ويقول: “عندما أذن رب العالمين بالفتح وحررت حلب… استمرت العمليات… تحررت سراقب… شعرت أننا اقتربنا من مدينتنا… وأن المعرة على طريق العودة إلينا”.
وكالحبيب الذي افتقد محبوبته وبدأ بتقفي أثرها لسنوات، كانت تلك علاقة حب أبدي لا يمكن أن تقتلها براميل الحقد أو عزل المستبد، وهو ما كان عليه حال مهجري المدينة بعد تحريرها، يصف البم المشهد قائلا: “بعد يوم من التحرير، بدأ الناس بالعودة… البعض، رغم دمار منزله، فضل العودة حتى لو سكن في خيمة”.
ويختتم الصحفي البم شهادته بالتأكيد أنه رغم الدمار وفقدان المعريين لمنازلهم ومقومات الحياة في المدينة، إلا أنهم فضلوا العودة إليها على البقاء في المخيمات، مشيرا إلى أن “الحياة في المدينة تتحسن تدريجيا، فمحال السوق الـ 400 أعادت فتح أبوابها، فيما تحاول وزارة الصحة إعادة ترميم مشفى المدينة المدمر بالكامل”.
معرة النعمان ومسيرتها مع الثورة السورية
منذ بدايات الثورة عام 2011، شاركت معرة النعمان بفعالية في الحراك السلمي ضد النظام، وسرعان ما أصبحت مركزا للمعارضة في ريف إدلب. في 2012، خرجت عن سيطرة النظام، وشهدت تجربة إدارة مدنية، لكنها تعرضت لقصف عنيف ومتكرر.
في عام 2020، استعاد النظام الساقط السيطرة على المدينة بعد حملة عسكرية واسعة، ما أدى إلى تهجير سكانها بالكامل وتدمير كبير في بنيتها التحتية. بقيت خالية من الحياة طيلة أربع سنوات وسط غياب تام للخدمات.
في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، استعادت المعارضة المدينة ضمن عملية “ردع العدوان”، وبدأ السكان بالعودة رغم الدمار، لتستعيد المدينة تدريجيا نبضها المفقود.
المعرة تعود إلى الحياة من جديد
بلال مخزوم، ناشط من أبناء المدينة ويعمل في مجالات متعددة، يستعيد ذكريات تحرير المعرة، ويقول: “يوم التحرير كانت لدينا لجنة الاستجابة، وقطاعات مدنية عملت على مؤازرة القطاع العسكري”، ولم يكن يعلم أن مدينته ستكون على بنك أهداف معركة معرة النعمان، وكان في محور آخر يقدم الدعم اللوجستي للمقاتلين.
تلقى خبر استعادة المعرة… لم ينتظر كثيرا، وسرعان ما قرر الذهاب إلى مدينته للاطلاع على ما يجري فيها، يقول لموقع “سوريا 24”: “تلقيت الخبر بسعادة شديدة… لم أعرف كيفية الوصول إلى المعرة”.
ويضيف: “وجدت المدينة… أحب بقاع الأرض على قلوبنا بعد مكة والمدينة… وكانت ملامحها شاحبة وحزينة بمساجدها ومدارسها”.
ويشير إلى أنه لم يكن وحيدا على أبواب المدينة، بل كان هناك زحف من أهاليها، وهم يعودون إليها من جميع مداخلها، مهللين ومكبرين، وشاكرين الله على كرمه، حيث كانت الدموع تسبق الأقدام.
ورغم فرحته العارمة بالعودة إلى مدينته، إلا أن في القلب غصة، كما يقول: “أبرز ما افتقدته هم الشهداء الذين قضوا في المعارك والجبهات… نعم، ولدت من جديد، ولكنني افتقدت الشهداء والأحبة الذين استشهدوا على أبواب المدينة وعلى جبهات المدن السورية الأخرى”.
ويقارن بين واقع المدينة قبل عام وواقعها الحالي، بالقول: “الواقع العام قبل عام كان سيئا جدا، لا يوجد أبسط مقومات الحياة من ماء وكهرباء وأفران… ولم يكن فيها شبكة اتصال”، لكن المعرة اليوم، ورغم الموارد الشحيحة، عادت إليها الحياة من جديد، وعاد نحو 50% من أهلها… ويختتم حديثه بالقول: “المدينة الآن عبارة عن خلية نحل… الشعب السوري جبار، ويعمل على إحياء بلده من جديد”.
عودة تدريجية لا تخلو من تحدياتتشير مشاهدات ميدانية وشهادات متطابقة إلى أن جزءا من سكان المدينة عاد منذ الأسابيع الأولى بعد التحرير، رغم الدمار الواسع. افتتحت أكثر من 400 محل تجاري في سوق المعرة وسوق الخضار، إضافة إلى ورش بناء ومشاريع خاصة بإعادة الإعمار.
لكن مشكلات البنية التحتية ما تزال قائمة؛ إذ يعاني الصرف الصحي من أعطال، فيما لا يزال المستشفى الرئيسي خارج الخدمة. وتقول مصادر محلية إن مشاريع حكومية متعلقة بإعادة التأهيل متوقفة أو بطيئة التنفيذ.
المدينة التي عادت تنبض بالحب
لم تكن المعرة مجرد مدينة حررها مقاتلون، بل قلبا خفق من جديد بعد موت طويل. عاد أهلها إلى حجارتها المهدمة قبل أن تعود إليها الخدمات، لأن ما يجمعهم بها أعمق من السقف والجدران… إنه الحنين والانتماء.
في وجوه الأطفال العائدين، وعيون الأمهات الممتلئة بالدموع، كتب النصر الحقيقي: مدينة لم تمت، بل صبرت… وعادت تنبض بالحياة








