في محطة فارقة من محطات الثورة السورية، شكّل تحرير محافظة حماة ضمن عملية “ردع العدوان” حدثًا مفصليًا، ليس فقط عسكريًا، بل رمزيًا وإنسانيًا أيضًا. فقد استعاد أبناؤها مدنهم وقراهم بعد سنوات طويلة من القصف، والاعتقال، والتهجير، والمعاناة.
لكن قصة الخوف في حماة ليست جديدة. فقد عاشت المدينة منذ مجزرة فبراير/شباط 1982 واحدة من أكثر المحطات دموية في التاريخ السوري الحديث، عندما دمّر نظام الأسد الأب أجزاء واسعة من المدينة وقتل الآلاف من سكانها في صمت مطبق، لتبقى جراح تلك الليلة محفورة في ذاكرة الحمويين لعقود. منذ ذلك الحين، تحولت المدينة إلى رمز للوجع المكبوت، والخوف المزمن من تكرار المأساة.
ومع انطلاق الثورة السورية عام 2011، ورغم القبضة الأمنية المشددة، لم تتأخر حماة في الالتحاق بالحراك الشعبي. غير أن النظام أعاد إحكام سيطرته عليها في أواخر عام 2012، محولًا المدينة إلى مساحة خانقة من الحواجز والمداهمات ومعسكرات الجيش المحيطة. ومع ذلك، لم يُطفئ الخوف جذوة الأمل، ولم تنكسر عزيمة الناس الذين ظلوا ينتظرون لحظة الخلاص.
نعيش على الأمل
يقول مهند الروح (35 عامًا)، وهو من أبناء محافظة حماة، لموقع سوريا 24: “كنا نتابع الأخبار بشكل متواصل، ونتواصل باستمرار مع رفاقنا من المقاتلين والإعلاميين والمنسقين، منذ لحظة خروجهم من حماة، وحتى تحريرها بالكامل”.
ويتابع: “كنا نتلقى تسريبات تبعث الأمل في صدورنا عن قرب عمل عسكري قد يعيد لنا الأرض والكرامة”، لكنه في المقابل لم يكن يتوقع أن يتم التحرير بهذه السرعة.
ويضيف: “كنا نظن أن التقدم سيتوقف عند مدينة مورك فقط، ولكن قلوبنا كانت متعلقة بأمل أكبر: تحرير سوريا كلها، أو على الأقل كامل محافظة حماة”.
وبحسب مهند، فإن اللحظة الفارقة تمثلت في دخول حلب، إذ رفعت هذه الخطوة المعنويات بشكل كبير، ومنها بدأ الناس يطمحون بتحرير مزيد من المناطق في إدلب، شمالها وجنوبها.
ويضيف: “حين بدأ المقاتلون يتقدمون نحو ريف حماة الشمالي، عشنا حالة من الترقب. كنا ننتظر الأخبار لحظة بلحظة، عن تحرير نقطة هنا أو حاجز هناك. كان جبل زين العابدين هدفًا استراتيجيًا بالنسبة لنا، لأنه يمثل بوابة الدخول إلى مدينة حماة”.
ويستذكر مهند حديثه مع أحد أصدقائه قائلًا: “قلت لأبو عبدو ياسين: إذا لم تدخلوا هذه المرة، سننهار نفسيًا… لقد كان الوضع النفسي للناس مرهقًا لدرجة يصعب وصفها.. لكن الشباب أقسموا على أن يفعلوها ولم يحنثوا بقسمهم”.
الخوف والرجاء
أما ربا الصالح، وهي معتقلة سابقة في فروع النظام الأمنية، فتصف اللحظات التي سبقت التحرير بأنها الأصعب على الإطلاق، وتقول لموقع سوريا 24: “كنا نعيش حالة من الخوف العميق من تكرار الفشل، خاصة بعد محاولات متكررة للدخول إلى المدينة، كان آخرها في أيلول/سبتمبر 2015، وقد باءت جميعها بالفشل”.
وتضيف: “الشعب كان ينتظر التحرير، لكنه في الوقت نفسه كان متخوفًا، خصوصًا مع تكرار القصف على المدينة، وخاصة من معسكر جورين، والذي تسبب بسقوط أكثر من 25 شهيدًا من المدنيين”.
ومع ذلك، تقول ربا: “كنا نعدّ الساعات، ليلًا ونهارًا، ننتظر لحظة الدخول. وحين رأينا المقاتلين داخل مدينة حماة، أدركنا أن التحرير أصبح واقعًا. عندها بدأ الخوف يتراجع، وبدأنا نعدّ أنفسنا لمرحلة جديدة، ملامحها كانت واضحة في ساحات المدينة وشوارعها”.
من الرعب إلى العمل
من جانبه، يروي علاء طربين (44 عامًا)، الموظف في شركة الكهرباء، كيف تغير واقع المدينة بعد التحرير، فيقول لموقع سوريا 24: “قبل التحرير، كانت الحياة في حماة لا تُطاق. كانت مدينة الحواجز والفروع الأمنية والإتاوات. حتى أبسط تفاصيل المعيشة كانت مقيدة بالممارسات الأمنية اليومية”.
ويضيف: “أما الآن، فقد أصبح الواقع مختلفًا تمامًا. أهم ما تغير هو نهاية عهد الاستخبارات، الذي جعل حتى مؤسسات الدولة تعمل وكأنها أفرع أمنية. اليوم، الناس يتحركون بحرية أكبر، وعادت روح الحياة إلى المدينة”.
ويتابع: “لاحظنا تحسنًا في الأسواق، حيث انخفضت الأسعار بشكل ملحوظ، وهذا ما لم يكن ممكنًا في ظل سياسات النظام السابقة التي حرفت مؤسسات الدولة عن أدوارها الأساسية”.
كما يشير إلى أن بداية التحرير شهدت نوعًا من التعاون بين الأهالي والسلطات، ويقول: “حملة حماة تنبض من جديد كانت مثالًا على ذلك، فقد أظهرت رغبة صادقة من الناس في إعادة البناء، ورغبة من الجهات الرسمية في التعاون والتجاوب”.
مدينة تنهض من الركام وتكتب فجرها من جديد
في دروبها التي خنقها القمع لسنوات، تسير اليوم حماة نحو ضوء جديد، تحمله وجوه العائدين، وخطى الأطفال في أسواقها، وهم يكتشفون مدينة تحررت أخيرًا من الظلام.
ليست فرحة التحرير مجرد لحظة عابرة، بل بداية لحياة حقيقية، ينفض فيها الناس غبار الخوف، ويستعيدون حقهم في العيش، والعمل، والانتماء.
وهكذا، تنهض حماة من تحت الركام، لا لتعود كما كانت، بل لتكون كما حلم بها أبناؤها.








