لم تكن الساعات الأولى من فجر الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 ساعات عادية. كلّ ما ظهر على الأرض أوحى بأن بنية النظام في العاصمة بدأت تتداعى بسرعة، وأن إعلان هروب بشار الأسد لم يعد سوى مسألة وقت. الصور القادمة من دمشق وشهادات سكانها حملت الإحساس ذاته: الفصل الأخير من حكم آل الأسد يُطوى. في الشوارع، شوهد عسكريون يخلعون بزّاتهم، فيما ترك آخرون أسلحتهم وفرّوا نحو المجهول.
وفي الجنوب، بدت الفوضى أوضح؛ انسحاب عشوائي من خطوط التماس مع إسرائيل، آلاف الجنود يتركون مواقعهم متجهين في مسيرات هزيمة نحو دمشق بعد انهيار الدفاعات وانقطاع الاتصال بقياداتهم. هذه المشاهد، المترافقة مع صمت رسمي مريب، دفعت السوريين والعالم إلى إدراك أنّ النظام دخل مرحلة السقوط، وأن الإعلان الرسمي بات وشيكًا.
في مساء اليوم نفسه ظهرت مذيعة التلفزيون الرسمي أليسار معلا في بث مباشر من حيّ السومرية، حيث التقت وزير الداخلية محمد الرحمون، الذي حاول التقليل من حجم ما يجري واصفًا ما أسماه “المحطات المعادية” بأنها تبث الشائعات، مؤكدًا أنّ “النظام ثابت ما ثبت قاسيون”. ونفى وجود أي انسحاب عسكري، مدّعيًا أن الأصوات في محيط العاصمة ناتجة عن استهداف “مجاميع إرهابية”. كما التقت أليسار بعض أهالي الحي، الذين كرّروا شعارات الولاء، قبل أن تُنهي مداخلتها بالدعوة إلى “عدم الإصغاء للإشاعات”.
وسائل الإعلام وليلة السقوط
بدت سوريا، في تلك الليلة، وكأنها تعيش يومها الأخير. حمص خرجت فعليًا من سيطرة النظام، وتراجعت قواته على جبهات الشمال والجنوب، وتفككت الطرق الحيوية بين دمشق والساحل. ورغم وصف الإعلام الدولي للمشهد بأنه انهيار دفاعي واسع، تمسّك الإعلام الرسمي بخطاب “السيطرة الميدانية”، متحدثًا عن “إعادة انتشار”.
المنصات المعارضة قدمت صورة معاكسة تمامًا، مؤكدة تقدّمًا واسعًا وواصفة اللحظة بأنها “المرحلة الأخيرة”. أما المنصات المرتبطة بمحور المقاومة فاعترفت بحدوث انسحابات فعلية، محذّرة من سقوط “خلال أيام”.
بيان الدوحة
عشية السقوط، صدر بيان وزراء خارجية السعودية ومصر والعراق وقطر والأردن وإيران وتركيا وممثل روسيا بعد اجتماع في الدوحة، مؤكدًا أن استمرار الأزمة يشكل “تطورًا خطيرًا”، داعيًا إلى حل سياسي وفق القرار 2254.
لم يمنح هذا البيان ـ ولا إنكار الإعلام الرسمي ـ بشار الأسد الثقة للبقاء في قصره حتى الصباح؛ فقد غادر منتصف الليل إلى قاعدة حميميم، ومنها إلى منفاه في موسكو.
وفي الرابعة وعشرين دقيقة فجراً أُعلن رسميًا عن هروبه، فيما غابت أليسار عن الشاشة لتحل محلها أغاني الساروت ورفاقه.
الواقع الاقتصادي بعد عام من السقوط
بين ليلة السقوط واليوم، تبدّلت مؤشرات الاقتصاد بشكل لافت. فعشية انهيار النظام كان متوسط راتب الموظف الحكومي بين 250 و300 ألف ليرة، وسعر الصرف فوق 18 ألف ليرة للدولار، ما جعل الدخل الفعلي نحو 15 دولارًا فقط. ومع تضخم تجاوز 40% وعجز بلغ 8% من الناتج، كانت الرواتب بلا قيمة تقريبًا.
اليوم، مع برنامج “الاستقرار النقدي”، ارتفع الحد الأدنى للأجور إلى 900 ألف ليرة، ومتوسط الرواتب إلى 1.3 مليون، أي قرابة 100 دولار بعد تحسن سعر الصرف. ورغم بقاء الرواتب أقل من كلفة المعيشة، إلا أن قيمتها الحقيقية تضاعفت، فيما انخفض العجز إلى 6% مع بدء انخراط البنك الدولي في مشاريع إعادة الإعمار.
الواقع الخدمي
توضح البيانات الأممية أن سوريا قبل السقوط كانت تعمل على منظومة خدمات شبه مشلولة: كهرباء بين 1–2 ساعة يوميًا، وأكثر من 50% من البنية التحتية غير فعّالة. وقدّر البنك الدولي خسائر الكهرباء بأكثر من 30 مليار دولار، مع حاجة إلى 39 مليار لإعادة التأهيل.
اليوم ارتفعت ساعات الكهرباء إلى 6–10 ساعات في كثير من المناطق، بدعم عقود طاقة وتمويل دولي أولي بقيمة 150 مليون دولار. ومع ذلك، تبقى الفجوة بين حجم الدمار وحجم الإنجاز كبيرة، ما يجعل الإصلاح الخدمي معركة طويلة.
الواقع السياسي
عهد الأسد كان نظامًا شديد المركزية، قائماً على الحزب الواحد والأجهزة الأمنية، وبرلمانًا شكليًا وغيابًا كاملاً للتداول السياسي. بعد السقوط، انتقلت البلاد إلى سلطة انتقالية تسعى لتفكيك الدولة الأمنية، وبدأت حوارات سياسية ومسارًا دستوريًا مؤقّتًا. ورغم ضعف المؤسسات ووجود انتقادات واسعة، فإن الانفتاح السياسي والإعلامي اليوم أوسع بكثير مقارنة بالماضي.
السياسة الخارجية
قبل السقوط، كانت دمشق تتحرك ضمن محور واحد: موسكو–طهران، بخطاب دفاعي قائم على هاجس البقاء. بعد عام، تحاول السلطة الجديدة بناء شبكة علاقات متوازنة، وفتح قنوات مع أوروبا والخليج وتركيا وواشنطن، مع التركيز على الاستقرار وجذب الدعم الاقتصادي. ومع ذلك، يبقى إرث النظام السابق حاضرًا في ملفات معقدة كالعلاقة مع إيران ووجود القواعد الروسية والملف الأمني الإسرائيلي.
الملف الأمني
رغم مرور عام على التغيير، يبقى الملف الأمني التحدي الأكبر: الجنوب، تنفيذ اتفاق ١٠ آذار مع “قسد”، عودة نشاط خلايا داعش، إضافة إلى انتشار السلاح والفصائل. هذا يجعل المشهد الأمني معقدًا ويحتاج إلى مقاربة طويلة الأمد تجمع بين الإصلاح المؤسسي والتسويات المحلية.
بعد عام على ليلة السقوط، تقف سوريا بين تاريخ ينسحب وآخر يحاول أن يولد. الطريق ما زال طويلاً، مليئًا بالتحديات السياسية والاقتصادية والأمنية، لكن معالم الدولة الجديدة بدأت تتشكل: خدمات تتحسن ببطء، سياسة خارجية أقل تبعية، حياة سياسية أكثر انفتاحًا، واقتصاد يحاول أن ينهض من تحت الركام. المستقبل ليس مضمونًا، لكنه للمرة الأولى منذ عقود ليس مغلقًا.








