في وقت تتجه فيه الأنظار إلى قصر العدل في حلب، تبدو المحاكمات العلنية للمتهمين بارتكاب انتهاكات خلال أحداث الساحل السوري اختبارا مزدوجا للقضاء السوري: اختبارا للشكل عبر علنية الجلسات وحضور الإعلام والمراقبين، واختبارا للمضمون عبر أساليب التحقيق وضمانات المحاكمة العادلة.
وبين الترحيب بالعلنية والتحفظ على جوهر الإجراءات، تتقاطع قراءات قانونية وحقوقية ترى في هذه الجلسات خطوة مهمة، لكنها غير مكتملة.
الجلسة الثانية من المحاكمة العلنية عقدت في قصر العدل بمدينة حلب، الخميس الماضي، بحضور ممثلين عن منظمات حقوقية ودولية، بينها جهات أممية ومنظمات تعنى بالعدالة الانتقالية والمساءلة والشفافية، قبل أن تقرر المحكمة تعليق الجلسة إلى 22 كانون الثاني/يناير المقبل.
ومثل أمام المحكمة سبعة متهمين بارتكاب انتهاكات خلال أحداث الساحل التي وقعت مطلع آذار/مارس الماضي، في جلسة ترأسها رئيس محكمة الجنايات بحلب، القاضي زكريا عبد الغني البكار.
رصد مراسل سوريا 24، في حينه، حضورا واسعا لمحامين ومواطنين داخل قاعة المحكمة، إضافة إلى استجواب علني للمتهمين، من بينهم أحد الأشخاص الذين نسب إليهم مقطع فيديو يظهر حمله أشلاء بشرية، وهو ما نفاه المتهم مدعيا أن المقطع مفبرك باستخدام الذكاء الاصطناعي.
من زاوية إجرائية، يرى المحامي عبد عبد الغفور خلال حديثه لموقع سوريا 24 أن ما يجري لا يخرج عن إطار المحاكمات الجزائية التقليدية، موضحا أن هذه الجلسات تدار وفق قانون العقوبات السوري الصادر عام 1949، وأن الزخم الإعلامي المحيط بها مرده إلى كون القضية قضية رأي عام، لا إلى طبيعة المسار القانوني المعتمد.
وينتقد عبد الغفور التعويل على الذكاء الاصطناعي كوسيلة دفاع وتكراره ضمن مرافعات المتهمين، معتبرا أن القضاء يعتمد أساسا على خبراء مختصين في تقنيات الفيديو للتحقق من صحة الأدلة، وأن إنكار التهمة يظل من أولويات الدفاع المشروع، لكنه يبقى حلا إسعافيا مؤقتا لا يؤسس لمسار عدالة انتقالية.
ويشدد في المقابل على أن العدالة الانتقالية تتطلب تشريعا خاصا ومستقلا لمحاكمة مجرمي الحرب والانتهاكات الجسيمة، خارج الإطار التقليدي للقانون الجزائي العام.
في المقابل، يقدم حسام قسقاس، عضو فريق التحقيقات ومتخصص أبحاث المصادر المفتوحة في دار عدالة، قراءة أكثر نقدية، معتبرا أن علنية الجلسات، رغم أهميتها الرمزية، لا تشكل تحولا حقيقيا في مسار القضاء ما لم تترافق مع تغيير جوهري في أساليب التحقيق وضمانات المحاكمة العادلة.
وينتقد قسقاس خلال حديثه لموقع سوريا 24 ما نشر رسميا من مشاهد تحقيق علنية، معتبرا أنها تكشف عن إشكاليات قانونية خطيرة، ولا سيما في ظل إفادات بعض المشتبه بهم بتعرضهم للتعذيب أثناء التحقيق بهدف انتزاع الاعترافات، وهو ما يشكل، قانونيا، قرينة على بطلان الإجراءات وانتهاكا لمبادئ القانون السوري نفسه، فضلا عن التزامات الدولة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ويحذر قسقاس من أن استمرار الاعتماد على أساليب تحقيق تقوم على الضرب والتعذيب لا يعكس فقط فشلا في تطوير أدوات العمل القضائي، بل يعيد إنتاج جوهر المنظومة الأمنية القمعية التي سادت لعقود، ويقوض أي ادعاء بالقطيعة مع إرث الدولة البوليسية، مفرغا مفاهيم العدالة الانتقالية والعدالة بعد النزاع من مضمونها الحقيقي.
ويرى أن الدولة تمتلك بدائل مشروعة وفعالة للتحقيق، من بينها تحليل الوثائق الرسمية، والاستفادة من تحقيقات المصادر المفتوحة، وبناء القضايا على أسس مهنية تحترم حقوق الإنسان وتنتج أدلة قابلة للاستخدام القضائي، محذرا من أن تجاهل هذه الأدوات لصالح الاعترافات القسرية يفتح الباب واسعا للطعن القانوني مستقبلا، سواء أمام القضاء الوطني أو أي آليات قضائية لاحقة.
وبينما يبقى الغضب الشعبي مفهوما في ظل جسامة الانتهاكات التي شهدها الساحل السوري، والجرائم المتراكمة خلال سني الثورة المرتكبة من قبل النظام الساقط، يؤكد قانونيون أن وظيفة القضاء ليست ترجمة هذا الغضب إلى إدانات مسبقة، بل ضبطه ضمن إطار قانوني يضمن الحياد والنزاهة واحترام حقوق المتهمين.
فهذه الضمانات، بحسب مختصين، لا تشكل تنازلا عن حقوق الضحايا، بل تمثل الشرط الأساسي لإنتاج أحكام صامدة قانونيا وأخلاقيا.
وكان رئيس اللجنة الوطنية المستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل، القاضي جمعة العنزي، قد أكد في تدوينة على منصة إكس، في وقت سابق، أن الحكومة السورية تعتمد المحاكمات العلنية نهجا ثابتا لكسر دائرة الإفلات من العقاب وتعزيز الشفافية وحماية حقوق المتهمين، مشيرا إلى أن ملايين السوريين ينتظرون انطلاق مسار العدالة الانتقالية بشكل أوسع.
يذكر أن أولى جلسات المحاكمة العلنية انطلقت في 18 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وشملت محاكمة 14 موقوفا على مرحلتين، وسط تأكيدات رسمية على استمرار عقد جلسات علنية أخرى بحق أكثر من 560 متهما على خلفية أحداث الساحل، إضافة إلى ملفات أخرى تتعلق بانتهاكات ارتكبت بحق السوريين خلال السنوات الماضية.








