في مدينة الرقة، حيث تشكّل الزراعة ركيزة أساسية للاقتصاد المحلي ونمط الحياة اليومي، ما تزال مهنة الحدادة التقليدية حاضرة بقوة رغم التغيرات المتسارعة التي طرأت على المدينة خلال السنوات الماضية. وتُعد عائلة الديبو من أبرز العائلات التي حافظت على هذه الحرفة، مستمرة في صيانة المدافئ وصناعة الأدوات الزراعية اليدوية، في مسعى لحماية إرث مهني توارثته الأجيال.
عبد العزيز الديبو (54 عاماً)، الذي ورث المهنة عن والده، يؤكد في تصريح لـ سوريا 24 أن الحدادة بالنسبة لعائلته ليست مجرد عمل يومي، بل امتداد لتاريخ عائلي طويل. ويقول: “هذه المهنة ليست فقط مصدر رزق لنا، بل هي تقليد عائلي أحب أن أنقله لأولادي، كي لا تضيع الحرف اليدوية التي تعلمناها عن آبائنا وأجدادنا”.

ويشير الديبو إلى أن طبيعة عمله تتغير باختلاف المواسم، إذ يتحول فصل الشتاء إلى موسم رئيسي لصيانة المدافئ وتنظيفها، نظراً لاعتماد شريحة واسعة من أهالي الرقة عليها في التدفئة. ويوضح لـ سوريا 24: “مع حلول الشتاء، يصبح تنظيف المدافئ وإصلاحها شغلنا الشاغل، فالكثير من الناس يعتمدون عليها للتدفئة في برد الرقة الشديد”.
وخلال بقية فصول السنة، يتركز عمل العائلة على صناعة الأدوات الزراعية اليدوية، مثل الفؤوس والأوتاد الحديدية وغيرها من المعدات الأساسية التي يحتاجها المزارعون في أعمال الحراثة والحصاد. وفي هذا السياق، يقول محمد الديبو: “صناعة الفؤوس والأوتاد هي عملنا الأساسي خلال باقي فصول السنة، وهذه الأدوات مهمة جداً للمزارعين لأنها تساعدهم في زراعة الأرض والحصاد بشكل أفضل”.
ومع انتهاء الموسم الزراعي وتراجع الحركة في الأسواق، يجد الديبو في فصل الشتاء فرصة لتعويض هذا الركود من خلال التفرغ لصيانة المدافئ. ويضيف: “بعد انتهاء موسم الزراعة، أتفرغ تماماً لصيانة المدافئ، فبعض المحال الزراعية تقل فيها حركة الزبائن، واستغلال هذا الوقت في إصلاح المدافئ يوفر دخلاً إضافياً ويخدم أهالي المدينة”.
ويرى الديبو أن مهنة الحدادة تمثل استمرارية لأسلوب حياة تقليدي في مدينة تتغير ملامحها تدريجياً بفعل التطور التكنولوجي ودخول الآلات الحديثة إلى السوق. ويؤكد لـ سوريا 24: “من المهم الحفاظ على هذه الحرف اليدوية، لأنها جزء من هوية العائلة وتراثها. الآلات الحديثة قد تكون أسرع، لكنها لا تعوض جودة الأدوات الحديدية المصنوعة يدوياً”.
ولا تخلو هذه المهنة من التحديات، إذ يشير الديبو إلى الارتفاع المستمر في أسعار الحديد وصعوبة تأمين المواد الأولية، إضافة إلى نقص العمالة الماهرة. ويقول: “الحديد أصبح غالياً، وأحياناً نواجه صعوبات في تأمين المواد الأساسية، لذلك نسعى لتعليم أولادنا والعمل ضمن ورش صغيرة للحفاظ على استمرارية المهنة”.
ويختتم الديبو حديثه بالتأكيد على البعد الاجتماعي لحرفته، معتبراً أن المدفأة في فصل الشتاء تمثل أكثر من وسيلة للتدفئة. ويقول لـ سوريا 24: “الأمر لا يقتصر على العمل وحده، بل هو تقليد شتوي يجتمع فيه الجميع حول المدفأة، ولنا فرحة خاصة عندما نرى عملنا يخفف قسوة البرد عن الناس”.









