Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram

أسطورة حذاء أبي القاسم الطنبوري

ابتكر السوريون، عبر تاريخهم الطويل، حكماً وأمثالاً لم تكن معروفة من ذي قبل، وطوروا الحكم والأمثال الموجودة سابقاً بما يتناغم مع الأحداث السياسية والاجتماعية التي تمر بها بلادهم.

فقد زعموا أن أبا القاسم الطنبوري كان يعيش، خلال الثمانينات، في بلدة صغيرة، وكان لديه حذاء أسود عتيق، تهرأ كعباه، ونبقَ له من الأمام لسانان، انبعجت أرضيته فصار يمتص ماء المطر من الشوارع ويُغْرِق به قدمي صاحبه، ويجعلهما تصدران أثناء المشي صوتاً غريباً هو فش فش.

أصبح حذاء أبي القاسم الطنبوري مشهوراً في طول البلاد وعرضها، وصار الناس يعرفونه من حذائه أكثر مما يعرفونه من وجهه المكتئب على طول الخط، وفي يوم من الأيام أراد أن يتخلص من هذه المعادلة المقلوبة، فذهب إلى السوق، وطلب من “البويجي” أن يغير لون حذائه فيجعله أحمر، وما إن تم له الأمر حتى وضع الحذاء أمامه، وكتب عليه كلمة (للبيع)، وإذا بهذه العبارة تفعل في الناس فعل السحر، فكل مَن مر به كان يضحك ويقول:

– سبحان الله الذي يخلق من الشبه أربعين، والله لولا أن لون هذا الحذاء أحمر لقلنا إنه حذاء أبي القاسم الطنبوري!

اعتاد الناس في بلادنا، منذ فجر التاريخ، أن يأخذوا حقهم بأيديهم، لذا لم يخطر ببال أحدهم أن ينصح أبا القاسم بمغادرة السوق ورمي الحذاء في أقرب حاوية للزبالة، أو أن يشكوه لدورية التموين باعتباره غشاشاً يستعين بالبويا لتضليل الناس، أو أن يدل عليه دورية للشرطة، أو يشتكي عليه لمحكمة الصلح المدني، بل إن الذين تجمعوا حول أبي القاسم شرعوا يضربونه بالحذاء على رأسه ويسبون محارمه ويقولون له:

– آه يا غشاش يا عديم الوجدان، تبيعنا حذاء أبي القاسم الطنبوري على أنه حذاء أحمر، وعلى “الموضة”؟.

حمل أبو القاسم حذاءه ومشى ملوماً محسوراً نحو البيت، وقبل أن يصل لاحظ وجود بناء حديث غير مسقوف، فوجدها فرصة مناسبة للتخلص من الحذاء دونما عقابيل، وقف أمام البناء، وركز بصره نحو الأعلى، ثم قذف فردتي الحذاء الواحدة تلو الأخرى كما لو أنه لاعب كرة السلة يسدد كرته بعدما يحصل على (ضربة زائد ضربة)، وقبل أن يتنفس الصعداء سمع رشة قريبة من بارودة روسية، خرج له على إثرها مسلحون غاضبون، بينهم اثنان يتألمان نتيجة لسقوط فردتي الحذاء على وجهيهما، وشرعوا يضربونه ضربا مبرحاً ويقولون له:

– آخ يا ابن الحرام، كنا ننصب كميناً للإخوان المسلمين العملاء، وأنت أفسدت علينا كميننا.

استطاع أبو القاسم، بعدما شفيت الجروح والرضوض التي خلفتها حفلتا الضرب المتتاليتان على جسده، أن يقنع رجلاً من حارة أخرى اسمه “غانم” بشراء الحذاء، مزيناً له فكرة مفادها أن بإمكانه أن يأخذه إلى دكان الإسكافي أبي علوش، ويُجري له حفلة إصلاح متقنة، فيطلع الحذاء من تحت يديه الحنونتين وكأنه جديد من الوكالة.

وكما يقول المثل الشعبي (كلمتين على الأُذن سحر)، لذلك اقتنع غانم ووافق على الشراء بعشر ليرات معدنية عليها صورة الرئيس حافظ الأسد، ونفذ غانم نصيحة أبي القاسم، فأصلح الحذاء ولأجل التمويه طلب من الإسكافي أبي علوش أن يجعل بوزيه عريضين، بما يتناسب من الزي الدارج، ويصبغه بلون رمادي، فلما صار جاهزاً لبسه في قدميه، وصار يمشي الخيلاء، ويطقطق بكعبيه على بلاط الشارع، وفجأة فَكَح، وانزلق، ووقع على طوله، وانخلعت إحدى فردتي الحذاء واستلقت على الأرض، وبدلاً من أن يهب الناس لإسعافه، شهقوا وغنوا له:

– عيب عليك يا غانم، تلبس حذاء أبي القاسم!

حزن غانم مما جرى له، وعرف أنه قد تعرض لعملية غش حقيرة، فما كان منه إلا أن ذهب إلى دار أبي القاسم، وطرق عليه الباب، يريد أن يتشاجر معه، ويرغمه على إبطال الصفقة، فلم يجد أحداً.

كان أبو القاسم كان قد غادر البلدة هرباً من شبح حذائه الحقير، وعند أقرب حاجز أمني فتشه العناصرُ تفتيشاً دقيقاً، وبسبب سوء حظه المعهود، وجدوا في الطرف الداخلي من “كلسونه” جيباً صغيراً مدروزاً، وفي داخله أشياء معدنية مستديرة، استبشروا بها خيراً إذ اعتقدوا أنها نوع من الأحزمة الناسفة، أو مسامير مطاردة، أو شرائح خاصة بقصف الطيران الإسرائيلي لمواقعنا العسكرية، فطلبوا الخبير المختص، وفتحوا جيب الكلسون بعناية، فوجدوا فيه عشر قطع نقدية من فئة ليرة سورية واحدة طُبعت عليها صورة حافظ الأسد.

سألوه، بعدما وضعوه في الدولاب وضربوه ضرب البغال، عن سر تخبئتها في هذا المكان الوسخ، فاعترف لهم أنه قبضها ثمناً لحذائه، وسوغ ذلك بأنه خبأها لئلا تضيع منه في الطريق، وهنا ضربوه مرة أخرى، ولكن بشدة أكبر، لأن الجدير به، لو كان مواطناً صالحاً، أن يقبض ثمن حذائه الحقير قطعتين من فئة خمس ليرات، أو بليرات قديمة خالية من طبعة رأس السيد الرئيس.

رافق عناصرُ الدورية أبا القاسم في طريق العودة إلى بلدته، وأرغموه على إبطال عملية بيع الحذاء للسيد غانم، ثم ساقوه إلى فرع فلسطين، ومنه إلى محكمة أمن الدولة بتهمة تحقير السيد الرئيس، ثم سيق إلى سجن صيدنايا حيث أمضى ثلاث سنوات، وبعدها شملته مكرمة العفو التي أصدرها الرئيس حافظ الأسد في ذكرى الحركة التصحيحية المباركة، ومن هناك أعيد إلى فرع فلسطين، وتم تسليمه عهدته وهي عبارة عن أربعة بنود:
1- ساعة يد.
2- قداحة كليبر.
3- نصف علبة سجائر الشرق.
4- حذاء رمادي ذو بوز عريض.