Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram

“نحن والعالم” جسد يتكسّر ولغة تنتهك.. وليد قوتلي ومسرح الحضور

هل حقا نحتاج نحن إلى المسرح؟ أي شئ يحدثنا به المسرح؟ وقد صار الوطنُ مسرحا يجري عليه الدم وينطبق عليه معنى التراجيديا؟

هذه التساؤلات دفعني إليهأ العرض المسرحي “نحن والعالم”، للمخرج وليد قوتلي، فمن نحن، ومن هو هذا العالم الذي نقف أمامه؟

نحن والعالم:

“نحن والعالم”،عرض مسرحي اعتمد لغة الجسد من خلال 12 مشهد عن الراهن السوري، وقد جسد على شكل لوحات تشكيلية، معتمدة التعبير الجسدي وحده، إلى جانب عناصر أخرى كالموسيقى، والإضاءة، وأدوات بسيطة ظهرت خلال العرض الكراسي، وكراسي المعاقين، كإشارة إلى ما خلفه النظام من انتهاك للجسد.

حكايات غاب فيها النص تماما، كما هي أعمال أخرى لجأ إليها القوتلي قبل الثورة السورية ومنها مسرحية “بلا تعليق”، التي جسدتها الراحلة فدوى سليمان مع مجموعة ممثلين، من خلال لوحات متعددة في إشارة إلى الوضع الداخلي، القمع، انتهاك الحريات، حالة الانتظار كحالة شعرية وفلسفية، وايضا عمل” كما ترى”، و”كما تشاء”، مسرحيتان قدمهما في باريس.

ولأن المذبحة السورية واحدة من أكبر مذابح العالم، شعب يتم قتله وتشريده وتحطيمه وإذلاله من أجل أن يصمت ويتحول إلى ضحية، حيث تغيب اللغة ويتوارى الأفق بعيدا، من هنا لجأ قوتلي إلى لغة الجسد، فهل استطاع أن يرسم الحكايا، أم بقي بعضها عالقا في العتمة ولم يخرج إلى الضوء؟

ورغم أن الثورة أطلقت لغة السرد، ولم يعد الصمت سيد الموقف، فلماذا بقيت الحكاية محمولة على جسد الممثل، هذا الجسد الذي يمكنه أن يعتّم الفضاء المسرحي أو يُضيئه؟

يقول قوتلي: “المسرح مكون من حوالي 30 عنصراً، تشكل فيه اللغة أحد هذه العناصر المتعددة”، مؤكداً على أن “الكلمة محدودة الدلالة”.

وعن اختيار قوتلي للغة الجسد وإبعاد اللغة، يقول: “المتلقي أو المشاهد في مسرح التعبير الجسدي مشارك حقيقي، فحين تغيب اللغة، يضطر المتفرج للتفكير لقراءة المشهد بكل رموزه، وبالتالي فإن الجسد والإشارة تحمل مدلولات مختلفة، ومشاركة المتفرج، تدفع إلى توظيف كل الحواس، وكل ثقافته كي يقرأ ما يرى”.

وبمقارنة سريعة بين أداء الممثلين في “نحن والعالم”، وأدائهم في “بلا تعليق”، نكون في الأولى أمام شباب سوريين لجأوا إلى تركيا وعرفوا الحرب، شباب موهوبين، يمثلون لأول مرة، وفي “بلا تعليق” كنا أمام ممثلين محترفين خريجي المعهد العالي المسرحي، بداخلهم مخزون ثقافي عالي انعكس على الأداء الذي حمل غياب النص، وخاصة أن المخرج اعتمد في مسرحية “بلا تعليق”، ولو نسبيا على جسد راقص.. في حين غاب الجسد الراقص في الأخيرة، والدلالات تختلف.

مغامرة الاكتشاف:

يتميز قوتلي بروح المغامرة، ولا يهمه اللعب والمراهنة، والدخول في تجربة المسرح سواء مع شباب موهوبين، أو محترفين، يقول: “أول مسرحية عملتها” توباز” كانت مع هواة، هناك مخرجين اشتغلوا مع سجناء ومشردين، لهذا عملت أنا مع شباب موهوبين، الهواة عجينة سهلة غالبا، متحمسين أكثر، وعملت مع أطفال المخيمات أيضا، حين كنت أصوّر الفيلم الوثائقي “أطفال سوريا يصعدون إلى السماء”، والذي تخلله أثناء التصوير اللعب والتمثيل والفرجة المسرحية، إضافة لشهادات الأطفال عن الحرب، وهنا نقول بأن الفن هو مايأخذك إلى مكان آخر”.

مشاهد وأحوال:

على صوت النايات الحزينة يفتتح العرض المشهد الأول، بنساء أشبه بعالم جنائزي، كربلائي، يتحركن على المسرح في إشارة إلى البحث والموت والسواد الذي يلف أمهات المعتقلين والثكالى في الحالة السورية.

ستارة بيضاء تتصدر المسرح وأجسام تلتحف العباءات السوداء، وهو مايجعلنا نتساءل هل بات المشهد للموت وحده، أم هو استعارة من التاريخ وإسقاطات على الحاضر السوري؟

نساء يدرن واقفات ثم يجلسن على الأرض يتمايلن ثم يدرن كمن يبحثن عن شيء، ثم يرتمين على الأرض، في إشارة إلى حالة الخيبة.

وسرعان ما ننتقل إلى مشهد الكراسي، ثلاث بنان وثلاث شباب، يضحكن بشكل هستيري، يتمايلن يمسكن بالكراسي بحركات تشير إلى القلق وربما إلى اللاشيء، ينتهي المشهد بسقوط الجميع على الأرض.

يستوقفنا بين هذه المشاهد الـ 12، مشهد التعذيب، والذي وظف فيه المخرج صوت مباراة كرة القدم، ممثلون يركلون جسداً في إشارة للتعذيب، وربما في إشارة إلى لعب العالم بثورتنا وقضيتنا التي تحوّلت إلى لعبة دولية، الإنسان هو الضحية فيها، فتوظيف قوتلي لكرة القدم، هو إشارة أخرى إلى أهتمام العالم بكرة القدم، ونسيانه لمن يموت تحت التعذيب في المعتقلات والحصار، أو تحت قصف براميل النظام ومن يقفون معه، مشهد يطرح على المتفرّج الكثير من التساؤلات، فالثورة تتحول إلى كرة، فيبدأ المجتمع الدولي بكلّ منظماته اللعب فينا وبثورتنا وبقضيتنا، في إشارة إلى العنف وتوليده معا.

ثم يأتي مشهد قراءة الممثلين للصحف، السخرية من كل الأخبار وردود الأفعال والإعلام، المشهد تحوّل إلى لوحات فنية، وكأن تقطيع الأداء مبني على بعد التشكيل، مع حركات الممثلين والتفاتاتهم، ضحكهم في لحظة البكاء، أو عبثهم.

ولم يهتم المخرج بالتكشير والمبالغة في تعبير الوجه، بل غيّب التعبير عن الوجوه، وركز في كلّ مشهد على الحركة، ملغيا ملامح الغضب والعنف عن وجوه الممثلين، ما جعل أحد الحضور يسأل عن معنى الضحك في لحظة التعذيب؟

لجأ قوتلي إلى الصدمة، بمشهد غير مالوف ومخالف للحظة، شيء بريختي أن يداوي الصدمة بصدمة أخرى مغايرة، من هنا يأتي أهمية الوعي عند المتفرج، وهو ما يؤكده غروتوفسكي “لا يمكن للمسرح أن يوجد بدون العلاقة الوجدانية والإدراكية المباشرة وعلاقة التواصل الحي بين الممثل والمتفرج”. ونظرا لأهمية وعي المتفرّج في التواصل مع العرض يقول: “يكفي أن يكون ممثل واحد ومتفرج واحد”.

مشهد الأقنعة:

ملأ الممثلون الفضاء المسرحي، وهم يضعون الأقنعة، في إشارة إلى أن العالم بات متفرّجا علينا، وغابت ملامح الوجه التي تفصح بصورة أسرع من لغة الكلام عن بواطن الشخصية وهي لغة مرئية، فالماكياج والأقنعة يشكلان طابعا تنكريا ويحملان معنى عمق اللحظة التي يعيشها السوري في عالم صمّ أذنيه عن سماع همّنا.

موسيقى وتشكيل:

المميز في هذا العمل هي الموسيقى التصويرية، والتي وظفت بما يتناغم مع الحكاية وحركة الجسد، ومنها مقطوعة من كارمينا بورانا، ونايات، موسيقى يابانية، وإلكترونية تنويعات حسب المشهد، موسيقى تكون أحيانا مناقضة للمشهد، بعيدا عن مفهوم الموسيقى التصويرية، هذا التناقض يشكل صدمة للمشاهد، إلى جانب ايقاعات وفلوت ونايات، وإضاءة مدروسة تُشكّل بمجموعها مشهدية تخدم السيناريو حتى ولو كان لغته الصمت الذي يعتبر لغة الضحية بامتياز.