يُشيع الإعلام المرتبط بآلة الدعاية الأمريكية مقولاتٍ وتحليلاتٍ غايتها خلق قناعات مختلفة ومضطربة لدى جمهور المتلقين، هذه القناعات تؤدي دورها اللاحق في قبول ما يصدر من مواقف تتخذها الإدارة الأمريكية.
وقد دأب الإعلام الأمريكي منذ تفجّر الثورة السورية على تصدير ما يوحي بأن الادارة الأمريكية تقف مع الشعب السوري ضد قمع النظام الأسدي من خلال مقولة ” فقد النظام شرعيته “.
هذه المقولة في التحليل الملموس هي تعبير عن تقدير موقف لا أكثر، فجملة “فقد النظام شرعيته” تعني أنّ هذا النظام لم يعد شرعياً وفق رؤية الأمريكيين، ولكن هذه الرؤية لا يستتبعها إجراءات مادية تنفي وجود اللاشرعية واستبدالها أو الدفع لتحقيق حالة شرعية.
الأمريكيون كانوا يضخون عبر الإعلام المرتبط بنظامهم الدولي أنهم لا يرغبون في الانخراط بالصراع السوري، هذا ما كان يحدث في فترة حكم باراك أوباما.
ولكن الحقيقة تكذّب هذه الادعاءات، كان الأمريكيون نشطين في محاولة إيجاد جهات سورية تتعاون معهم وفق برنامجهم ورؤيتهم الاستراتيجية، وهم وجدوا بتنظيم الPYD غايتهم، وقد باشروا الانخراط في الصراع السوري منذ البداية عبر أدوار ووسائل مختلفة، فهم تعاونوا مع تنظيم الPYD لأكثر من هدف عسكري وسياسي، وأوجدوا ما أطلقوا عليه “غرفة عمليات الموك” التي كانت شركاً لفصائل المعارضة المسلحة، إذ تمّ تزويدها بالسلاح والمال وفي الوقت ذاته تمّ القبض على قرارها وتحويلها إلى شريك صغير تابع من خلال صيغة تحالف دولي، لكنّ هذا التحالف كان ولا يزال يأتمر بأوامرهم الفعلية.
الأمر ذاته بقي مع مجيْ دونالد ترامب، فالسياسات الأمريكية لا يقررها الرؤساء الأمريكيون، ولكنهم يشاركون في صناعتها وفي التصريح عنها بعد اتخاذ قرار يصدر عن الإدارة العميقة للدولة الأمريكية.
ولهذا فكل الجعجعة الأمريكية عن قرف الرئيس وتذمره من بقاء قواته في سورية هو كذب اعلامي، فالحقيقة أن الأمريكيين يريدون قواعد استناد لهم في هذه المنطقة لشن حروبهم الاقتصادية والعسكرية القادمة سواءً في العمق الآسيوي وربما في أوربا أيضاً.
الاستراتيجية السياسية الأمريكية استراتيجية مركّبة وذات قدرات على ممارسة التضليل الإعلامي، فجوهر هذه الاستراتيجية يتمثّل بالنهم الأمريكي لثروات وأسواق البلدان الأخرى، ولإشباع هذا النهم تحتاج الاستراتيجية الأمريكية إلى طيفٍ واسعٍ من الضخّ الإعلامي ومن المواقف التي تبدو مترددةً ومتذبذبةً وحاسمةً، لكنها تأتي كرزمة واحدة تؤدي هدفاً واحداً هو خدمة مصالح الاحتكارات الأمريكية.
الأمريكيون في سورية لن يخرجوا قريباً بدون حرب تحرير شعبية ضد قواتهم وهذه غير متوفرة الشروط والظروف حالياً، الأمريكيون لن يخرجوا ودليلنا ما يشيّدوه من قواعد جديدة على الأرض السورية في شمال شرق البلاد،، فمن يريد أن يخرج ما حاجته لبناء قواعد ذات كلف عالية سيضطر لتسليمها بعد حين.
ولهذا يذهب ترامب إلى لقاء بوتين لعقد صفقات محرجة مع خصمهم الروسي، فدعامة الروس في سورية هو تحالف بينهم وبين النظام الأسدي وإيران وميليشياتها.
الأمريكيون يريدون تفكيك هذا التحالف وتصدير فكرة دور أكبر للروس في سورية مقابل إخراج إيران من هذا البلد، فإذا رفض الروس الفكرة سيجدون أنفسهم في منزلق خطير يتعلق بوجودهم في سورية، أي أن الروس قد يواجهون حرب عصابات غير معلنة حتى اللحظة، تستنزف قواتهم، إضافة إلى أن تمويل القوات الروسية في سورية سيتم تجفيف منابعه بقرار أمريكي واحد.
أما إذا قبل الروس الفكرة “خروج إيران من سورية مقابل دورٍ روسي” فسيكونون كبالع السكين على الحدين، لأن خروج إيران من معادلة الصراع في سورية يعني تفكيك حلقات التحالف الروسي هناك، ويعني إضعاف دورهم، هذا التفكيك تتمّ ترجمته سياسياً بدورٍ وليس بإدارةٍ لدفة الصراع وتوزيع الأدوار.
الأمريكيون يديرون الصراع السوري بالاعتماد على إشغال مواقع متعددة في الوقت ذاته، حتى وإن بدت ملامح الإشغال في حالة تناقض.
الأمريكيون يريدون حصاداً أكبر في أكثر من اتجاه، ولكن هناك من يستطيع تغيير قواعد اللعبة في هذا المنحى، إنه الدور التركي الرئيسي الذي ينبغي على الروس إدراكه وفهمه والعمل معه دون الوقوع برغبات الإيرانيين الذين ينظرون إلى إدلب ولعابهم السياسي يسيل من أشداقهم، فهل يشكل هذا الدور ورقة ضغط متبادلة بين الروس والأمريكيين في قمتهم في هلسنكي، سيما وأن الأمريكيين وافقوا على بيع حليفهم PYD في عفرين ومنبج، وقد يبيعونه في مواقع أخرى مقابل الرضاء التركي.
والسؤال هل يمكن لبوتين اللعب بهذه الورقة مع الأمريكيين أم أنّ الأمور ستجري كما يشتهي الأمريكيون فيخرج الإيرانيون صاغرين من سورية ويبدأ زمن تحالفات جديدة غير ذاك الذي بقي لسنوات يحكم كل اللاعبين على الساحة السورية.