Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram

معتقلة سابقة: معاناة اللجوء أوصلت سيدة إلى محاكم النظام العسكرية

ريتا خليل - SY24

“كل ما أتيت لأجله كان طلب تسوية لوضعي فانتهى بي المطاف بعدرا”، هذا ما قالته “مريم” إحدى ضحايا النظام السوري ومؤسسته الإعلامية “الكاذبة”، حيث عملت الأخيرة خلال الثورة على تخدير أعصاب المواطن السوري ورسمت له صورة مزورة عن النظام “المجرم”.

مريم في منتصف العقد الثالث تتميز بالقامة الطويلة ما يعكس شخصية قوية تقارب شخصية الرجال، هي أم لأربعة أطفال حملتهم معها خوفاً عليهم ورأفة بهم إلى البلد المجاور لبنان في الفترة التي شهدت نزوح أبناء البلدات المجاورة لمدينة دمشق كأحياء داريا والمعضمية وعسال الورد وغيرها.

كانت تظن أنها ستلقى في ذاك البلد حضناً دافئاً وحماية لها ولأطفالها كونه بلد عربي شقيق، وكون الشعب السوري استقبل أشقاءه اللبنانيين في فترات أزماته المتلاحقة، لكنها فوجئت بواقع لا يختلف كثيراً عما تركته في سوريا باستثناء القصف والدمار الموجودين في بلدها الأم بصورة يومية.

مرت الأيام على مريم وهي تكافح من أجل لقمة عيش أولادها، إلى أن فتحت أبواب التسوية لبلدات وقرى ريف دمشق، ما سمح للكثيرين بالعودة إلى بلداتهم تحت مظلة حماية دولية وعهود ومواثيق ضامنة فما كان من مريم إلا أن اغتنمت تلك الفرصة، فلم يكن واقع إقامتها المؤقتة في ربوع لبنان لجوء فهربت من هذا الواقع واختارت العودة إلى سوريا برفقة أبنائها وحماتها، وتحت إلحاح والدة الزوج وإصرارها على كنتها مريم بضرورة الذهاب كأخريات ذهبن لتسوية وضعهن الأمني تجنباً لاعتقالها، بالرغم من أن مريم لم تشارك في العمل الثوري مطلقاً حسب ما روت بلسانها، حيث قالت: “كم أندم الآن لعدم اشتراكي مع زوجي أقله في المظاهرات التي كانت تخرج في كل جمعة، صراحة لم أكن مقتنعة بجدواها في ذلك الوقت يمكنكم تسميتي بالضبابية أو المترددة لكن هذا هو حالي في ذلك الحين”.

وجدت مريم نفسها مرغمة على إطاعة رغبة حماتها وهي أيضا لم تكن ترغب في عيش بقية حياتها في رعب أن يتم اقتحام منزلها أو اعتقالها على أحد الحواجز، فانصاعت لأوامر حماتها وذهبت إلى المكتب الذي خصصه النظام كواجهة للتسويات الأمنية التي روج لها هو ووسائله الإعلامية التي صدقتها مريم والكثير مثلها.

تحدثت “مريم” عن تفاصيل اعتقالها، قائلةً: “استقبلني الموظف المسؤول في مكتب التسوية طلب مني هويتي، وما إن أخدها حتى دخل إلى غرفة مجاورة ليخرج برفقة اثنين من الرجال يرتدون نظارات سوداء سميكة راح قلبي يرتجف خوفاً لمجرد رؤيتهما يتجهان نحوي فاستشعرت الخطر في لحظتها، سألني عن اسمي، وقال أحدهم: أين هو زوجك الخائن لماذا لم يأت معك؟ فأجبته: لم أره منذ سنة ولا أعلم عن حاله شيئاً أهو حي أم ميت، كانت تلك آخر كلماتي في الحرية، اقتادوني إلى فرع المخابرات الجوية وبقيت فيه حتى انتقلت إلى سجن عدرا”.

مريم التي لم تشارك حتى في مظاهرة كانت وقتها تنتظر مصيرها المجهول ضمن قائمة المحكمة الميدانية العسكرية والجميع يعلم ما هي هذه المحاكم الصورية، وسمعتها السيئة منذ أيام الأسد الأب، بدرجة أثارت فضولي فسألتها مرة، كيف وصلت بك الحال إلى الميداني العسكري وأنت لم تشاركي حتى في المظاهرات فما دفعك إلى تحمل عبء شيء لم تفعليه؟ أجابتني وقتها والحسرة بادية في صوتها وملامحها: “وكأنك لم تمري بالأفرع ولم تشهدي كيف ينتزعون منك الاعتراف بتهمة أنت لم تسمعي بها حتى في أحلامك، فعندما يتم تقييد يديكي للخلف وشبحكي للأعلى لأربعة أو خمسة أيام في كل مرة مع وجبات من ذاك القضيب الأخضر البلاستيكي، الذي ينهال به السجان عليك به ضرباً حتى تدخلين في حالة إغماء وتفقدين الوعي لتوقظك مياه باردة تنهال على جسدك المنهك، فتشهقين كما طفل صغير كان هذا جزء صغير من مسلسل عشته لأشهر في فرع المخابرات، وعندما يئست من أن يقتنع المحقق بصدقي وأنه لا دخل لي ومع إصراره على أنني مذنبة أقله في إطاعة زوجي للذهاب إلى لبنان والتي اعتبرها جريمة، فما كان من حل أمامي سوى أن أوقع على اعترافات وأنا معصوبة العينين مكبلة اليدين إلى الأمام، ولا أعلم حتى الآن على ماذا وقعت”.

بالرغم من ملامح مريم الخشنة التي تعكس شخصية مهابة وقوية إلا أنني أذكر أسبوعها الأول في عدرا، حين استغربت منع إدارة السجن لها من إجراء المكالمات الهاتفية أو حتى السماح لأحد من ذويها بزيارتها، فراحت تسألنا نحن المعتقلات السابقات، لماذا أعامل بهذا الشكل ألم يكفهم أنني اعترفت بذنب لم اقترفه، وكم كانت دهشتها عندما أخبرتها إحداهن بأن حكمها ميداني عسكري طبقاً لهذه المعاملة، فهكذا تعامل معتقلات ومحكومات الميداني في سجن عدرا.

لم تفهم مريم ما معنى محكمة ميدانية عسكرية فكل المحاكم بنظرها سواء، أحجمت وقتها عن الشرح لها، فأتت إحداهن معروفة بيننا بتسرعها ورعونتها الدائمة، وقالت لها: “ميداني يعني انتظارك حكم الإعدام في كل لحظة، ولا أحد يعلم متى يحين دوره إلا عندما ينادى باسمه”، لم تتقبل مريم الخبر بسهولة وقتها لكنها في النهاية استسلمت لواقعها واندمجت مع مجتمعها الجديد، في محاولة للتأقلم والتعايش وتحسنت معنوياتها قليلاً عندما بدأت في مجالسة قريناتها من المحكومات ميدانياً ومنهن صديقتي وزميلة فراشي زكية، فكنا نقضي جل وقتنا معاً.

هذا التقارب جعل من فقدنا لزكية بعد أن قاموا باستدعائها في أحد الصباحات ولم تعد منذ ذلك الوقت، وكلنا علم بمصيرها المحتوم والذي كان الإعدام ميدانياً بحسب مختصين مطلعين على المحاكم الميدانية وآلية عملها، فقدان زكية أدخل مريم في حالة من التوتر النفسي الداخلي، فهي باتت تعد الدقائق والأيام لدخول السجان فينادي باسمها لتلقى مصير زكية، ومر قرابة الشهر ومريم على هذه الحال فكلما جلسنا سوية استذكرت رفيقتنا زكية فتنهمر دمعتها، وتقول: “اشتقت إلى وجود زكية بيننا، ويا ترى هل الدور القادم علي أنا” فلا أجد إجابة تخفف عنها وكيف أخفف عنها، وأنا كنت أجهل ما سيؤول إليه مصيري وقتها.

في ليلتها الأخيرة تحسنت معنويات مريم، ذلك كان عندما كنا نصطف كعادتنا كل مساء للتفقد المسائي حيث ينادى على اسم كل واحدة منا، فتجيب بكلمة حاضر وعندما أتى العنصر على ذكر اسمها اقترب آمر السجن منها، وسألها أأنت مريم؟ فاستغربت سؤاله وقالت: نعم أنا هي، لماذا تسأل يا سيدي؟، فأجاب العقيد: لا شيء ولكن هناك من يسأل عنك، فظنت مريم أن هناك من يسعى لإخراجها من هذا الجحيم عبر واسطة ما، فراحت تخبرني بعد أن دخلنا أنها متفائلة جداً في الغد بأن تأتيها زيارة من أحد تعرفه من أقاربها يحمل لها خبراً يفرح قلبها.

ظن مريم كان في محله من ناحية الخبر وفعلاً أتى الخبر في صباح اليوم التالي وكانت مريم هي الخبر، حيث نادى السجان عليها باسمها الكامل طالباً منها أن تجمع حاجياتها ليصار إلى سوقها للمحكمة العسكرية، وبقيت انتظر رجوعها وحيدة كما كنا نتشارك معاً انتظارنا عودة زكية من ذات المكان والمصير، ذاك الأمل الذي ظللت أحمله سنة كاملة داخل السجن، واستمر حتى اليوم، وبعد أن غادرت ذاك المكان المقيت.