Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram

من مذيع “زراطة” إلى مذيع الرئيس!

خلال الأشهر الأولى التي تَلَتْ تعيين الشاعر (ع) بصفة مذيع تلفزيوني، استطاع أن يثبت للإدارة، ولزملائه في قسم المذيعين، وحتى لجمهور الإخوة المشاهدين، أنه ليس جديراً بتغطية المهرجانات الخطابية وحسب، بل أنه معلم المعلمين في هذا المجال، وأن إمكاناته لا تقل عن مستوى الإشراف على معهد يُجري دورات في تدريب المذيعين المتمرنين على الإلقاء، فيعلمهم متى يجب على مقدم الحفل أن يرفع صوته، ومتى يُخفضه، ومتى يُرَقِّصُهُ، ومتى يكون في قمة الجد، ومتى يبتسم، ومتى يوجز، ومتى يُطنب، ومتى يشير إلى إنجازات الرفيق القائد حافظ الأسد وعطاءاته، ومتى يُبحر في عمق التاريخ العربي المشرق ويستشهد بخالد بن الوليد، وطارق بن زياد، وصلاح الدين الأيوبي، أو بحكماء التاريخ، كأكثم بن صيفي، والأحنف بن قيس، وواصل بن عطاء، ومتى يُلقي بيتين من شعر المتنبي، أو أبي تمام، أو صابر فلحوط، وكيف يُحَضِّرُ، ضمن وصلته الخطابية القصيرة، لِلَّحْظَةِ المفصلية التي يربط فيها مآثر هؤلاء وبطولاتهم وأشعارهم بعبقرية السيد الرئيس حافظ الأسد الاستثنائية.

ذات مرة استدعاه مدير التلفزيون، وأعطاه مهمة (Order) تتضمن الذهاب في اليوم التالي إلى “قصر الفيحاء” لتغطية المهرجان الخطابي السنوي لمنظمة شبيبة الثورة، وسلمه دعوة موقعة من قبل الرفيق سعيد حمادي، عضو القيادة القطرية المسؤول عن قطاع الشباب والطلبة.

رفع (ع) يده على نحو نصف دائري، ووضعها فوق رأسه، وقال للمدير:
– على راسي الثورة، وشبيبة الثورة، والرفيق سعيد حمادي، وكل الشباب الطيبين. ولكن، لعله من حسن الحظ أنك أنت الذي فتحت معي هذا الموضوع، فأنا كنت على وشك أن أفاتحك به.

قال المدير مستغرباً: أي موضوع؟
فقام (ع) من على كرسيه، واتجه نحو الباب الذي كان موارباً، أغلقه، وعاد إلى حيث كان يجلس، ثم أحنى ظهره وقَرَّبَ رأسه من المدير، بما يكفي للإيحاء بأن الحديث بالغ الأهمية، وقال له:
– أحيطك علماً، يا رفيق، أن إيفادي لتغطية مهرجانات خطابية أو احتفالية تحت رعاية مصطفى طلاس، أو زهير مشارقة، أو عبد الله الأحمر، أو عبد الحليم خدام، (مع الاحترام وحفظ الألقاب) لا يقلل من شأني، ولا ينطوي على إهانة لي، فهؤلاء في المحصلة رفاقنا، وكل الرفاق، بالنسبة إلي، خير وبركة، ولكنه يدل على أن مؤسساتنا الإعلامية المختلفة، وبضمنها تلفزيونُنا العربي السوري، لم تصل، بعدُ، إلى مستوى تحقيق مبدأ “تكافؤ الفرص” الذي يوليه قائدُنا حافظ الأسد اهتماماً خاصاً.

لقد آن الأوان، يا رفيق، أن تعرفوا قيمتي الحقيقية، وتجعلوني متفرغاً للمهرجانات الخطابية التي توضع تحت رعاية القائد العربي الكبير حافظ الأسد حصراً.

لم يحر المدير جواباً، فتقدم (ع) خطوة إلى الأمام، إذ قال:
– إنه لمعلومٌ لدى سيادتك أنني الوحيد بين المذيعين الذي أجيد نظم الشعر، أي أنني لا أكتفي بالاتكاء على زيد وعبيد ونطاط الحيط من الشعراء المشاهير، ولست مجرد ناقل، بل ومبدع، والشعر الذي أقوله خلال تقديم ضيوف السيد الرئيس لم يكن في يوم من الأيام اعتباطياً، بل إن كل شطر فيه، وكل كلمة، وكل قافية، وكل حرف، مقصود بذاته، وإذا سمحت لي أن أستخدم مع سيادتك لغةَ دَلَّالي العقارات، أقول لك، من الآخر: لا يوجد من الشعراء الذين يستطيعون أن يتقدموا عليَّ في مديح السيد الرئيس سوى ثلاثة هم: محمد مهدي الجواهر، ونجيب جمال الدين، والدكتور مها قنوت، والباقي، لا تواخذني (زراطة).

شعر مدير التلفزيون أن هذا الشاعر المنافق (ع) قد حاصره في خانة اليك، وأنه يريد أن يأخذ منه بعض صلاحياته، ويُفَرِّغ نفسه في مكان قريب من الرئيس، وأن هذا سيُغضب المذيعين الآخرين، ولا سيما المذيعين الذين يُجاهرون بمحبة الرئيس مثل (ع) وزيادة حبة مسك، ولذلك فقد أشعره بانتهاء المقابلة، ووقف، وقال له:
– على كل حال الموضوع قابل للدراسة، وهو يحتاج للتشاور مع السيدين المدير العام والوزير، وإن شاء الله يحصل خير.

خرج المذيع (ع) من مكتب مدير التلفزيون مصدوماً، كمن تلقى صفعتين متعاكستين على حين غرة.

حينما أقدم على مفاتحته بهذا الأمر كان يضع احتمالاً صغيراً بأن ينحاز إلى ابن أخت زوجته الذي عينوه بالواسطة، مع أن إمكانياته مخجلة، وقد اعتاد، عندما يقدم مهرجاناً خطابياً يحضره السيد الرئيس أو لا يحضره، أن يدحش مقطعاً من قصيدة الجواهري التي يستبسل فيها بمديح الرئيس: يا حافظ العهد يا طلاع ألوية.. وغابُ خفانَ زَئَّارٌ به أسد.. إلى آخره، ولكن المدير يعرف، مثلما أعرف أنا، ويعرف غيري، أن المعاني ملقاة على قارعة الطريق، وهذه القصائد (الجواهرية) لم يبقَ في البلد بعثي، أو شبيبي، أو طلائعي، إلا وتَمَطَّقَ بها..

وأنهى تفكيره بقرار كان لا بد له من اتخاذه في هذه اللحظة، وهو: أن يفطر بمدير التلفزيون، قبل أن يتغدى به.

وهذا ما كان. إذ سرعان ما نزلت الأوامر من (فوق) بتفريغ (ع) للمهرجانات الخطابية رفيعة المستوى التي يرعاها الرئيس حافظ الأسد شخصياً!