Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram

حصاد المفاتيح .. ذكريات النزوح والتهجير

خاص - SY24

حينما يمتزج التهجير والنزوح بالغربة، في رحلة البحث عن الاستقرار، على هيئة منزل يحتويك ويشعرك بالأمان، رغم عدم وجوده في مدينة إدلب، عليك ألا تألف هذا المنزل إن وجدته، أو تحبه أو حتى تعتاد عليه، لأن المنازل هنا مؤقتة لا تحتمل الديمومة. 

هذا ما قالته “أم علاء” 35 عام مهجرة من الغوطة الشرقية، حيث أخبرتنا أنها منذ وجودها في المدينة، قبل أكثر من خمس سنوات، فهي تحتفظ بحزمة مفاتيح مختلفة الأشكال، تحبسهم بقطعة حديدية متينة كي لا يسقط أحد منها، فلكل مفتاح بيت ولكل بيت ذكرى، كما قالت لي عندما سألتها عن سر احتفاظها بهذا العدد من المفاتيح ليتبين أنه مشهد يختصر أياماً وأشهر وربما سنين على هيئة مفتاح!. 

المفاتيح العشرة التي بحوزة “أم علاء” تعبر عن البيوت التي سكنتها خلال إقامتها في مدينة إدلب منذ تهجيرها من الغوطة الشرقية إلى اليوم،  واعتادت أن تحتفظ بنسخة من مفتاح كل منزل تسكنه، لتحصي مع الأيام عدد البيوت التي سكنتها. في رحلة غربتها.

تمسك “أم علاء” المفاتيح وتفردها أمامي واحداً تلوى الآخر، وتقص لي حكاية كل منزل وما ترك بقلبها من ذكريات فيه مع بعض جيرانها، إلى أن تغادره وتسكن بيتاً آخر.

تمسك إحداها، وتقول: “هذا للبيت الأول الذي استأجرته في شارع المتنبي، بعد قدومنا من الغوطة، كان بارداً جداً، غريباً وفارغاً إلا من كرسي خشبي مكسور مثلنا، ربما لأنه أول منزل أسكنه بعد منزلي في الغوطة، ولذلك لم أعتد عليه بسرعة، لم نكن نملك أي أثاث منزلي، إلا ثيابنا التي قدمنا بها، و بمساعدة أهل الخير وإحدى المنظمات، حصلنا على، بعض الفرش الإسفنجية والبطانيات والأغطية، واشتريت عدة المطبخ وبعض الأواني الضرورية التي أنقلها معي أينما أذهب”.

ولم تكن تدري أنها ستحب المنزل وتشعر فيه بالراحة وتعتاد على شرب القهوة صباحاً مع جارتها، إلى أن الأشهر الثلاثة مرت بسرعة وحان موعد الرحيل، فقد انتهت مدة العقد كما أخبرها صاحب المنزل، إلا أن الحقيقة غير ذلك، كما قالت لي “فهناك من يدفع أكثر منها”.

وبين ثلاثة أو ستة أشهر من كل عقد، بدلت “أم علاء” عشر منازل في أحياء مختلفة من المدينة، لم تعرف فيهم طعم الاستقرار ولا السكينة ، عانت خلالها من صعوبات عديدة كإيجاد المنازل، ونقل الأغراض والأمتعة، التي كثيراً ما نقلتها تحت المطر في أيام الشتاء، تاركة وراءها أحواض الزينة التي زرعتها واعتنت بها، وذكريات معلقة على جدران كل منزل. 

وفي كل مرة تتحمل تكاليف النقل وأجرة المكاتب الذي تأخذ ما يعادل أجرة شهر كامل، حيث يعاني سكان مدينة إدلب، سواء المهجرين أو النازحين من أزمة سكن واضحة، فالكثافة السكانية الكبيرة جعلت من إمكانية الحصول على منزل للإيجار أمراً بالغ الصعوبة، ناهيك عن ارتفاع في أجرة المنازل بشكل عام.

ومن أكثر الأمور التي كانت تقلق “أم علاء” هو تأثر أطفالها بالتنقل من مدرسة إلى أخرى مع ترك بيوتهم ، فما إن يعتاد الأطفال على طريق مدرستهم ورفاقهم، حتى يغيروا المنزل والحي إلى حي آخر بعيد عن المدرسة، قالت إنها “لاحظت مؤخراً تراجع مستوى دراستهم، بسبب عدم الاستقرار لاسيما أن حالة الأطفال النفسية تتأثر كثيراً بسبب النزوح والانتقال المتكرر والابتعاد عن أصدقائهم، وبيوتهم وأشيائهم، لأن الطفل سريع التأثر خاصة إذا أحب شيئاً وفقده بسرعة، وهذا ما تعانيه اليوم مع أطفالها الثلاثة.

قد تبدو هذه المشكلة صغيرة لا تستدعي الحديث عنها بالنسبة للكثيرين، في ظل الظروف التي يعاني منها المدنيين في مدينة إدلب، ولكن لا يشعر بها إلى من عاشها واعتاد حزم أمتعته كل عدة أشهر ناهيك عن صعوبة إيجاد المنزل المناسب، فأكثر المنازل المتوفرة تكون إما في الطوابق العليا، أو عبارة عن أقبية رطبة مظلمة لا ترى الشمس، أما المنازل الجيدة فهي الأغلى ثمناً والأصعب في الحصول عليها.

تتمسك “أم علاء” بمفتاحها العاشر خشية فقدانه، تقول لي ربما يكون هذا النزوح المؤقت من منزل إلى منزل رفاهيةً أمام تأزم الأوضاع أو الاضطرار إلى السكن في خيمة قماشية  حيث لا جدران نستند عليها، ولا حتى مفاتيح نحتفظ بها للذكرى.